الترميم بدأ عام 1998 واستغرق 12 عاماً وثورة يناير أجلت الاحتفال 4 سنوات
بالرغم من مرور أشهر قليلة على سيامته أسقفاً لمصر القديمة لكنه كان خلالها دءوباً في التحرك والاتصال بكل المسئولين للحفاظ على كنائس مصر القديمة الأثرية، وعلى إحياء ذكرى رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر.. ولأن كل ما كنا نرصده لنيافته من مواقف وأعمال كانت تحكي عن عمق حبه للتراث القبطي فقد كان الحديث معه ممتعاً وإجاباته عن كل أسئلتي دافئة.. وأترك السطور التالية تحمل نص الحديث الذي دار بيننا قبل ساعات من الاحتفال الكبير…
* كيف تابعتم نيافتكم أعمال الترميم في الكنيسة المعلقة؟
* * ترميم الكنيسة المعلقة بدأ تحديداً في 15 فبراير1998 واستمر نحو 12 عاماً، وكان مقرراً أن يحتفل بعدها بانتهاء أعمال الترميم، ولكن جاءت ثورة يناير2011 ليرجأ الاحتفال وليكون لي بركة إقامة هذا الاحتفال يوم السبت 11 أكتوبر 2014.. لقد عاصر كل أعمال الترميم كل الآباء الأساقفة الذين سبقوني- نيافة الأنبا متاؤس، الأنبا يوحنا، الأنبا سلوانس والأنبا مينا، والآباء كهنة الكنيسة – القمص مرقس عزيز والقمص يعقوب سليمان – جميعهم تعبوا وأنا جئت على تعبهم، هم تعبوا وأنا أحتفل بتعبهم.. وأطلب من الرب أن يعوضهم عن كل تعبهم وكل ما قدموه للحفاظ على الكنيسة.. جئت أسقفا إلى مصر القديمة في مارس 2013 بعد انتهاء كل أعمال الترميم، وكانت كل مهمتي في هذه الفترة أن أضع كل اللمسات الجمالية التي تحفظ للمكان بهاءه وعظمته، وأن أعد ليوم الاحتفال الكبير بأكبر حدث تاريخي استمر لنحو 12 عاماً للحفاظ على أقدم كنيسة.
* سنوات طويلة استغرقتها أعمال الترميم.. هل نجد عند نيافتكم تفسيراً لهذا؟
* * لايدرك قيمة الوقت في عمل الترميم إلا من يعرف حال الكنيسة المعلقة قبل بدء الترميم وتهديدها بالضياع.. ولا يعرف قيمته أيضاً إلا من يعرف دقة عمل الترميم.. وربما لأنني تخرجت من كلية الهندسة جامعة عين شمس - مهندساً معمارياً – وترهبنت في دير مارمينا العجايبي بمريوط – وهو دير حديث وليس أثرياً إلا أن وجودي بطاحونة البابا كيرلس بمصر القديمة لنحو عشر سنوات علمني كيف أتعامل مع الأحجار الأثرية والتي أصبحت مزارات كبيرة ومشهورة..
وصار بيني وبين كل ما هو أثري علاقة حميمة، وعندما شاء الرب باختيار البابا تواضروس الثاني وجئت إلى الكنيسة المعلقة عايشت كل ما حدث خلال سنوات الترميم وكأنني عشتها معهم، وحرصت على الحفاظ على كل ما تم وإضافة ما يحافظ على كل طوبة وقطعة خشب وأيقونة في الكنيسة وإظهارها في رونقها وجمالها.
* * ومشروع الترميم في الكنيسة المعلقة وفي أي كنيسة أثرية ليس سهلاً لأن مراحله عديدة والتعامل مع كل مرحلة يستغرق وقتاً.. بداية التعامل كان مع الأساسات، وفي منطقة مصر القديمة التعامل معها يكون أكثر صعوبة لأنها تهددت منذ سنوات بعيدة بارتفاع منسوب المياه الجوفية لدرجة عالية جداًّ، أضف إلى هذا أن الكنائس وكل المنشآت في مصر القديمة مقامة على كميات كبيرة من الردم، ومعنى ذلك أن التعامل كان مع المياه الجوفية والردم وهي مهمة صعبة. أيضاً فالتعامل هنا كان مع كنائس ومنشآت بلا أساسات مسلحة، وللحقيقة كان مشروع الصرف الصحي في منطقة مصر القديمة من مشروعات الناجحة وعلى أعلى مستوى، رغم طول الوقت الذي استغرقه ورغم كل النفقات التي استنفذها.. كان صرف المياه الجوفية والانتهاء من سحبها أمراً أساسياًّ والأكثر أهمية الاستمرار في سحبها حتى لا تتجمع مرة أخرى.. وبعدها كانت عملية نزع الرديم وهو أمر أكثر صعوبة لتنتهي قصة الأساسات، وهنا لابد أن نذكر بكل التقدير دور هيئة الآثار المصرية في حل هذه المشكلة ليس بالنسبة للكنيسة المعلقة ولكن أيضاً في كنيسة أبو سيفين وكل كنائس مصر القديمة الأثرية..
* * تتواصل بعد ذلك رحلة الترميم من مرحلة إلى أخرى، ومن التعامل مع مشكلة إلى التعامل مع مشكلة أخرى.. القصة التالية كانت في التعامل مع الحوائط.. ومعالجة الشروخ، وإعادة الحوائط إلى أصلها وشكلها القديم.. وأذكر هنا عندما كان يسألني أحد هل انتهيتم من ”تجديد الكنيسة” كنت أرفض هذا التعبير لأننا لو كنا “نجدد الكنائس” فإننا نكون بنخربها، وهذا ما لا نقبله على أي كنيسة.. نحن نرمم الكنيسة أي نعيدها إلى أصلها.. عندما ترمم الحوائط فإن كل حجرة يتم تصويرها وتأخذ رقماً وبعد ترميمها وإعادتها إلى أصلها تعود إلى مكانها، وهذا هو أساس الترميم وسر صعوبته وبالذات الترميم الدقيق.. وما يحدث مع الحوائط يحدث مع صور الجداريات عندما ترمم، ليزال عنها كل عوامل الزمن التي أثرت عليها.
تأتي بعد ذلك المرحلة الأكثر صعوبة في التعامل مع الأخشاب.. الحجاب وكل أشغال الخشب التي تأثرت على مدار القرون بالسوس والحشرات، فهذه كلها تعالج علاجاً دقيقاً والأكثر أنها تعطي مناعة لما بعد.. فهي تجتاز مرحلتين: مرحلة العلاج ومرحلة الحماية.
وخلال كل مرحلة من مراحل الترميم بداية من معالجة الأساسات إلى الحوائط إلى الأخشاب.. كانت تتخللها رحلة أخرى لترميم الأيقونات وإعادتها إلى ما كانت عليه دون أي تغيير في ملامحها أو ألوانها.
* إن كان هذا عن رحلة ترميم الكنيسة المعلقة، فماذا عن ترميم باقي كنائس مصر القديمة؟
* * إن كانت رحلة ترميم الكنيسة المعلقة كما رأيتم رحلة طويلة فنحن نشكر الرب لقرب الانتهاء من ترميم جميع كنائس مصر القديمة، مثل كنيسة أبي سيفين التي دخلت في المراحل النهائية وكان من المقرر أن يحتفل بانتهاء أعمال الترميم قداسة البابا تواضروس الثاني في ديسمبر القادم، ولكننا رأينا أن يرجأ هذا إلى شهر يونية من العام القادم مع الاحتفال بذكرى دخول السيد المسيح أرض مصر,، وسنحتفل أيضاً بترميم كنيسة أبي سرجة، وكنائس مارمينا فم الخليج، الأمير تادرس، أنبا شنودة، والعذراء الدمشرية. أما كنيسة الملاك القبلي فقد انتهى من أعمال الترميم فيها بنسبة 50% وجاري استكمال باقي أعمال الترميم.. الحقيقة أن كل كنائس مصر القديمة كانت بحاجة إلى ترميم حيث تعود نشأتها إلى بدايات القرن الثالث والرابع الميلاديين وما بعدهما، والمغارة في كنيسة أبي سرجة تعود إلي القرن الأول الميلادي، وكل مبنى في الأرض تهاجمه عوامل الطبيعة وله عمر، ومن ثم يحتاج دائماً إلى ترميم ليبقى على صورته وهذا ما نحرص عليه لكل كنائسنا.
* ماذا تمثل الكنيسة المعلقة لنيافتكم؟
* * الكنيسة المعلقة تمثل أشياء كثيرة.. في شبابي عندما كنت خادماً بكنيسة السيدة العذراء الوجوه بشبرا كنت حريصاً بل مواظباً على اصطحاب تلاميذي في مدارس الأحد للصلاة أسبوعياًّ بالكنيسة المعلقة لأنني أشعر داخلها بالرهبة والخشوع وتحوطني أعمدتها بالروحانيات وأرى في أيقوناتها القداسة وتلمسني البركة في كل ركن فيها. حتي عندما بعدت عنها خلال رهبنتي بدير مارمينا العجايبي- 23 عاماً – ظلت صورتها تلازمني وظلت كل هذه الأحاسيس التي كنت أعيشها داخلها تحتويني وأنا بعيد عنها. وعندما اختارني قداسة البابا تواضروس الثاني في مارس من العام الماضي أسقفاً لمصر القديمة ونائبا لقداسته كان مقر الأسقف في كنيسة يوسف النجار وهي إحدى الكنائس الحديثة في مصر القديمة، ولكني طلبت أن يكون مقر الأسقفية في الكنيسة المعلقة ليس فقط لحبي الدفين لها في قلبي منذ طفولتي؛ ولكن أيضا لأن تاريخ الكنيسة يسجل أنها ظلت لعدة قرون من الزمان مقرا للكرسي البابوي، إذ يذكر التاريخ أن عمرو بن العاص عندما جاء إلى مصر وأقام في هذه المنطقة نصب خيمته وكان يطلق على الخيمة في ذلك الزمان ”فسطاط” فسميت ”مدينة الفسطاط” وصارت عاصمة للبلاد ولما رأى البطريرك خريستوذولوس أن يكون مقر الكرسي البابوي في عاصمة البلاد، جاء إلى الفسطاط نحو عام 685 ميلادياًّ وأقام في الكنيسة المعلقة، واستمر هكذا الحال إلى بداية القرن الرابع عشر.
وفي هذه الكنيسة تم دفن عدد من الآباء بطاركة هذا الزمن، والآخرون في كنيسة أبي سيفين وفي دير الأحباش- المعروف الآن بكنيسة بابليون الدرج.
* * وتمثل الكنيسة المعلقة عندي قوة الصلاة والصوم، ففيما كانت هذه الكنيسة مقراًّ للكرسي البابوي ما بين القرنين السابع والرابع عشر كان يقيم البطريرك الأنبا إبرآم السرياني 975- 979 وقد حدث أيامه وفي عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي أن استدعى الأنبا إبرآم وطلب منه نقل جبل المقطم من مكانه عملا بالآية:”ولو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلي هناك فينتقل” وخيره بين تنفيذ وصية الإنجيل أو اعتناق الإسلام، وعاد البابا إلى مقره بكنيسة السيدة العذراء المعلقة واعتكف في صلاة وصوم بالكنيسة مع الأساقفة والكهنة والرهبان والأراخنة الموجودين بمصر القديمة وشاركهم كل الشعب القبطي في طول البلاد وعرضها في الصوم ورفع الصلوات، وفي اليوم الثالث خرجت السيدة العذراء من العمود الخامس بالناحية القبلية للكنيسة – ومازالت صورتها مطبوعة علي العمود وحافظ الترميم علي بقائها بذات الألوان والبهاء الذي ظهرت به – وخاطبت البابا إبرآم وطلبت منه أن يخرج من الباب الحديدي للكنيسة وسيجد سمعان الخراز الذي سيرشده لعمل الله لتحريك الجبل، وقد كان وتحرك جبل المقطم وكانت أقوى معجزة لعمل الصوم والصلاة. والكنيسة القبطية من تقديرها وحبها للصوم أضافت هذه الأيام الثلاثة إلى صوم الميلاد ومازلنا نصوم الأيام الثلاثة مع بداية صوم الميلاد 25، 26، 27 نوفمبر من كل عام ونحتفل يوم 28 نوفمبر بعيد سمعان الخراز، وبدءاً من هذا العام سندعو إلى نهضة بالكنيسة المعلقة في هذه الأيام الثلاثة، وسندعو لصوم انقطاعي إحياء لهذه الذكرى وليكون لنا في هذا تقليد لن ننساه أبداً.
* * وتمثل الكنيسة المعلقة عندي كنزاً لواحد من أعظم أسرار الكنيسة سر المسحة المقدسة، فإذا كانت كنيستنا القبطية الأرثوذكسية العريقة خرجت منها طريقة عمل الميرون المقدس، الذي به يحل الروح القدس ليقدس الإنسان المعمد والكنائس والمذابح والأواني والأيقونات فإن الكنيسة المعلقة نالت بركة عمل الميرون ثلاث مرات على يد البابا الأنبا كيرلس البطريرك السابع والستين في القرن الحادي عشر الميلادي، والبابا أنبا غبريال الثامن والسبعين في القرن الثالث عشر، والبابا الأنبا يوأنس البابا الثمانين، وما من أحد دخل هذا المكان إلا وشعر برهبة غير عادية، وبتواجد السيدة العذراء فعلا.. وكانت بركة كبيرة لي أن يختارني قداسة البابا تواضروس الثاني أسقفاً لكنائس مصر القديمة.. واطلبوا عني أن يساعدني الرب في أن تظهر الكنيسة المعلقة دائماً في أبهى صورة.