– شهادات حية من المخيمات تدمي القلوب
– أبناء الموصل وقراقوش يفترشون الكنائس والمدارس باربيل… ويتدافعون حول أوراق الهجرة ولا يرغبون في العودة للوطن
– داعش احتلت كنيسة “مار يوحنا ” و اتخذوها مقرا لدولة الخلافة
– جميل زيتو: انخفضت اعداد المسيحيين من مليون ونصف إلى 400 ألف بالعراق
– الموصل كانت تئن من الفكر التكفيري منذ عام 2003
– كل ألف عائلة 6 مليون ونصف دولار لتشييد وحدات معيشية لهم
– الإغاثات معظمها وعود لم تتم بسبب تعقيد الإجراءات
– أزمات تقذف بالنازحين خارج العراق: الايواء والدراسة والبطالة
– 6 عائلات فقيرة اشهرت اسلامها لتنجو من القتل
العراق يفرغ.. ليس من المسيحيين فقط وإنما من مزيج المكونات الحضارية التاريخية به.. حقا من يسمع بخلاف من يرى فكل ما تقع عليه الأبصار هنا محزن.. وما جرى للمسيحيين جرى بالوجه الأبشع للايزيديين والكاكيين والشبك والتركمان.. الكل يفر.. يفرون فلا يجدون مأوى يسترهم.. و لا أمانا يستقر فى قلوبهم قبل بيوتهم..
الأقليات في كل مكان تدفع ثمن الإنقسام.. ولأن من الصعوبة التركيز على كافة الأقليات اتخذنا المسيحيين نموذجا لما يجرى بالعراق.. والمسيحيون دائما ما تأتي المصائب مجتمعة إلى اعتابهم.. لكن مسيحيو العراق مختلفون بعض الشىء، فبالرغم من تسامحهم إلا انهم يملكون السلاح.. و بشكل رسمي حماية ذاتية مسلحة تدافع عنهم – قوة من عدة ألاف – ترتدي الزي العسكرى للبشمركة وتتقاضى رواتبها من الحكومة العراقية.. الوضع قد يثير الدهشة بالنسبة لنا نحن المصريون.. لكن في العراق منذ السقوط في عام 2003 وحتى الأن والحالة الأمنية في تدهور، والأقليات مستهدفة.. وخيانات الأهالي والجيران الأخيرة وقت النزوح من الموصل لم تكن جديدة، بل كانت لهم ممارسات إرهابية – تجاه المسيحيين تحديدا – لكنها لم ترتقي لحد التهجير.. وإلى أين كان أولئلك المضطهدون يهربون.. كانوا على أمل التحرر.. فجاءت “داعش” لتمد أذرعها كالأخطبوط.. فيختنق ما تبقى من شرايين المحبة بين العراقيين في الموصل وسهل نينيوى..
عن الاوضاع والمأساة يحدثنا “أشور سرجون” كادر بالحركة الديمقراطية الأشورية – أحد الأحزاب المسيحية:
ورئيس الجمعية الأشورية الخيرية، فيقول: ” فيما يخص عن خيانة الأهالي لجيرانهم فلم يكن الأمر غريبا ولا جديدا على الموصل.. بل متوقعا لكن لم يكن احدا يسلط الضوء عليه.. فالموصل كانت تئن من الفكر التكفيري.. وذلك منذ عام 2003 من بعد سقوط بغداد وحتى الأن. كان الوضع غير مستقر.. هم فقط اختاروا ساعة الصفر.. و العشائر العربية الأن صارت يديها ملطخة بالدماء والتحمت مع داعش.. صحيح هناك بعض المشاكل العشائرية بينهم وبين بعض لكن في النهاية جميعهم متفقين على إرساء الدولة الاسلامية.. فالقاعدة الإسلامية المتطرفة صارت بالمحصلة مثل نظام حزب البعث السابق.. لديهم معلومات عن كل بيت ودار وعائلة وأسرة من جيرانهم.. الراتب الذى يتقاضاه أي موظف يعمل بأجهزة الدولة يحصل داعش على نسبة 12 دولار منه – أي جباية.”
“كانت لديهم قاعدة الجهاد فى بلاد الرافيدن والتوحيد والجهاد وهم ينتمون للسنة المتشددة، وكانوا يفرضون على الناس جباية و يهددونهم ومن لم يدفع يقتلونه – تصفية فورية – و التفجيرات كانت بشكل إسبوعي تقريبا.
أى شكوى يتم رفعها للشرطة بعد ثواني كانت تصل للإرهابيين.. الشرطة الموجودة بالموصل كلها مخترقة.. والأمر له جذور عميقة وليس جديدا.. الجديد فقط كان اختيارهم لساعة الصفر..”
ويكمل “أشور” موضحا: “لي صديقي كان مدير أحد المشاريع في السكة الحديد.. قبل خمسة أشهر تقريبا هددوه بوقف العمل بالمشروع فرفض.. فأخذوه وعلى مسافة 5 كم في الصحراء قرروا اعدامه وتهمته كانت الانتماء للشيعة، وقبل تنفيذ الحكم استطاع إثبات أنه سني عبر شهادة بعض الأشخاص تليفونيا.. فتركوه مؤكدين له استطاعتهم على الإمساك به في أي وقت.. وبعد 20 يوم اتصلوا به وطلبوا منه الذهاب إليهم.. ادخلوه إلى حجرة تحقيقات.. و بدأوا التحقيق معه.. إنها منظومة كاملة.. ابلغوه انه ممنوع من العمل نهائيا في مشاريع الحكومة الكافرة.. واجبروه على ترك عمله.. وابلاغ الحكومة أن هذا هو أمر الدولة الإسلامية.. فأبلغ الشاب الحكومة وسأل المسئولين ماذا أفعل .. اجابوه “وماذا نفعل نحن لك اقعد فى البيت؟”
يواصل “أشور” حديثه قائلا: “الموصل ظلت بها المضايقات تناقص عدد المسيحيين تدريجيا بعد اتهامهم أنهم موالين للأمريكان، وعليه بدأ الاضطهاد فقضوا على الوجود الرئيسي للمسيحيين فى 2004 و 2008 و 2010 كانت الضربة القاضية.. و التي مورس فيها الإستهداف على أساس الهوية الدينية و تم قتل المطران بالموصل وتحجيب النساء قسريا.”
وحول أزمات النازحين يقول “أشور” قائلا: “6000عائلة من سهل نينيوى فقط هي التي تحصل على المساعدات بينما العدد الإجمالى للنازحين من العائلات 15 ألف عائلة من المسيحيين الكلدان والأشوريين.. ومتوسط عدد أفراد العائلة حوالي أربعة أفراد أي حوالي 60 ألف نسمة.. و كان العدد الإجمالى في سهل نينيوى 130 ألف نسمة. و المناطق المتاخمة حدثت بها هجرة أيضا.. فالمجموع أكثر من 200 ألف من أبناء الشعب. ذهب إلى دهوك 80 ألف أو أكثر و 40 ألف فرد في تركيا. ما نقدمه لهم لا يتعدى السلال الغذائية وإيواء العوائل والاحتياحات والأغطية والمفروشات والأدوية .. لكن لا نستطيع توفير مساكن لهم لأن الأمر ليس سهلا.. لذلك استقبلت اربيل فى 26 مركز من مراكز المنظمات الأهلية والكنائس والحدائق مسيحيى وكاكييى العراق النازحين من المناطق المنكوبة. أيضا المدارس هناك 700 مدرسة سكنها اللاجئين.. كما يوجد تنسيق مع منظمات أخرى لإشغال البيوت الفارغة بالقرى والمبانى والمراكز الثقافية التابعة للشعب.”
وعن جهات الدعم يكمل “أشور”: “نتلقى القسم الرئيسي من الإغاثة من أمريكا واستراليا ومنظمات في هولندا والكنائس الإنجيلية في الدول الأوربية و بريطانيا.. ويتم التنسيق مع الأمم المتحدة ولكن لم يتم الدعم حتى الأن بسبب الإجراءات الطويلة التي تتطلبها المساعدات لتصل إلينا. إجمالى الدعم الذي وصل حتى الأن، العينى منه و المادى – 400 ألف دولار مقسمة 50 % عيني و الأخرى مادي. الأزمة في تأخر المنح هي الجزء المعقد من الإجراءات الطويلة.. وبالتالي حتى تصل المنح سيكون جزء كبير من العائلات خرج فعلا من العراق نهائيا.”
” أزمة أخرى على الأبواب لا يمكننا حلها وهى حلول الموسم الدراسي.. فلابد أن يكون هناك مأوى بديل للنازحين، حتى يتمكن الطلاب من ممارسة الدراسة بشكل طبيعي.. كما أننا على أبواب دخول الشتاء والمخيمات ليست على المستوى المطلوب، والوحدة الواحدة المشيدة لكل عائلة يتكلف بنائها حوالى 6500 دولار شاملة المرفقات. أي أننا نحتاج لكل ألف عائلة 6مليون ونصف دولار وهذا يستغرق وقتا طويلا.
في غضون شهرين إن لم يتم تحقيق المنطقة الآمنة بحماية دولية بضمانات عودة مع دعم إنساني، وخاصة ان
داعش تجرى عمليات توطين لعوائلها، سيكون من الصعب إخراجهم بعد ذلك.
اما “جميل زيتو”- رئيس المجلس الكلداني السرياني الأشوري – احد الاحزاب التى تجمع مختلف الطوائف المسيحية..
لدينا أزمة كبيرة في رغبة النازحين للهجرة خارج العراق تماما، بعد ما واجهوا الموت والإغتصاب والتهجير.. والأمر له جذوره التاريخية التي تعود لسنوات بعيدة وليس فقط بعد سقوط الموصل.. لذلك اتفقت الأحزاب السياسية والكنائس – لأول مرة متفقين – على الحماية الدولية الوقتية لحين التخلص من داعش..
ويوجد بديل كنا قد تقدمنا به للبرلمان والحكومة وهو استحداث محافظة ترتبط بالمركز في بغداد وتسمى “سهل نينيوى”، وهو مطلب قديم منذ ثلاث سنوات..
تجمع كل المكونات حتى العرب لنرسي السلام.. لكن بغداد تخوفت من أمرين -أولهما انضمام المنطقة لأقليم كردستان وبالتالي يكون إقليم كردستان قد ضم مساحات أكبر ونفوذا أقوى.. أما الأمر الثاني، خشيت بغداد من أن تتحول المنطقة إلى جزء مسيحي خاص..
حاليا وخلال اللقاءات وتقديم المذكرات صار نوعا من التفاهم لهذه المطالب وذلك من خمسة أشهر فقط.. صارت مناقشة لإستحداث عدة محافظات وليس محافظة سهل “نينيوى” فقط، ووافق مجلس الوزراء العراقي على انشائها من حيث المبدأ.. وكان المعارض الحقيقي “أسامة النجيفى” – رئيس البرلمان السابق و”أسيل النجيفي” – محافظ نينيوى.. ولكن الأن بعد تغير الحكومة ومحاولات ايجاد صيغ للتوافق ربما ننجح ونستبدل المنطقة المحمية الدولية بالمحافظة ويكون لها أمنها الذاتي أيضا للدفاع عنها.”
وأضاف: “أمر المحافظة أسهل بكثير من أمر المنطقة المحمية، لأن اعلان “الموصل” أو “سهل نينيوى” آمنة دوليا يستلزم ذلك قرار مجلس الأمن ويكون ملزما للحكومة العراقية. وهذا أمر يستغرق وقتا طويلا واجراءات سياسية معقدة.. إن لم تتحقق المنطقة الأمنة.. لا يمكن أن نشاهد شعبنا يهاجر ونحن صامتون عاجزون لذلك سنحقق مشروع المحافظة في سهل “نينيوى”.
وعن رغبة العديد من المسيحيين في ترك العراق يوضح زيتو قائلا: “تملك اليأس من المسيحيين بعد استمرار الأحوال لسنوات ثم انتهت لما آلت إليه.. كان عدد المسيحيين قبل عام، مليون ونصف.. أما الأن صرنا 400 ألف.. وذلك حسب إحصاء الكنائس ومنظمات المجتمع المدني العاملة في حقوق الإنسان ودوائر الهجرة.. والأن اعتقد أن مسسيحيى العراق عددهم أقل من هذا الرقم.. بعد سقوط الموصل.. لكن حاليا لا توجد لدينا احصاء دقيق للاعداد التى خرجت لان خروج العوائل يتغير من يوم ليوم، فأمس ليس كاليوم و غدا أقل.. الناس فى هروب يوم وراء يوم وساعة وراء ساعة.. يتركون أرض الأباء والأجداد ويلقون بأنفسهم للمجهول.. لم يكن ذلك من فراغ إنما لأسباب قريبة وأخرى بعيدة.. فعندما بدأ النزوح من الموصل لمدة شهر لم نلمس أي تحرك دولي ولا بصيص لعودة الأبناء للقرى ولا آلية – لا دولية ولا محلية – لإنقاذ الناس والباقى من بلداتنا.. فتملك اليأس من الجميع.. هجرونا من ديارنا.. اغتصبوا ممتلكاتنا.. اجبروا من بقى بعد المدة التي امهلوهم إياها على الإسلام مخيرين إياهم بين الإسلام أو القتل أو دفع الجزية في الوقت الذي لا يملكون فيه قوت يومهم، فمن أين يدفعون!”
“قبل شهرين كنت بأستراليا وهناك وجدت عراقيين كثيرين هاجروا ومازال العراق يسكن بداخلهم، يبكون شوقا لبلدهم لكن كيف يعودون والأمر يسوء يوما بعد يوم.. أنا لا أشجع الهجرة من الوطن، لكن لا استطيع أن ألوم الناس وليس أمامها مخرج آخر من الأزمة سوى الهجرة.. والأوضاع التي صارت بالموصل وقراها هدمت الثقة تماما في العودة.”
وأضاف زيتو: “أشهرت ستة عائلات مسيحية إسلامها بعد تهديدها بالقتل وهى بالأصل عائلات فقيرة ليس لديها إمكانيات وافرادها كبار السن ومرضى لا يستطيعون الهجرة.. لكن من يغير دينه تحت تهديد السلاح يمكنه العودة إليه إذا ما عادت الأوضاع بالموصل وتمت السيطرة على التطرف وطرد داعش.”
أما “استيفو حبشي” – رئيس بلدية قرقوش – التي هرب منها الايزيدين – وعضو اللجنة التنفيذية بالمجلس الشعبي عن تسليح المسيحيين يقول:
“ما كان يجري في الموصل والقرى المحيطة بها كان سببا في موافقة محافظ نينوى على تسليح المسيحيين في العراق.. وذلك بعد أن صارت عمليات استهداف المسيحيين بشكل خاص، وتعددت حالات الخطف في بغداد والموصل والبصرة – بحكم قرب هذه المناطق من سهل نينوى بالموصل. وصارت الأن بؤرة للإرهاب.. ثم جاء تفجير عدد من الكنائس في نفس التوقيت في عدة مناطق مختلفة.. لذلك تشكلت فرق حماية ذاتية بالتنسيق مع محافظ نينوى عام 2005 وتم السماح بتسليح المسيحيين بأسلحة خفيفة.. “كلاشينكوف”.. وتم تنظيم كتائب مسلحة بالألاف لحماية المسيحيين حماية ذاتية.. يتلقون التدريب من الجيش ويتقاضون رواتبهم من الحكومة.. لم يكن الأمر سهلا بسبب تزايد نشاط العصابات الإجرامية والإنفلات الأمني والخطف وطلب الدية، وهو ما دفع الحكومة للرضوخ لتسليح المسيحيين.”
“فارس جه تو مهجيد” تكلم عن احتمال أن يواجه المسيحيون أزمات في اربيل ويقول: “منذ ثلاث سنوات الملا مسعود – إمام وخطيب فى الجامع باربيل – طلب من الحكومة الكردية طرد النصارى من اربيل باعتبار الدين الإسلامى السني هو السائد وذو الأغلبية..”
ووجه اللوم لمحافظ اربيل.. ولنا فيما حدث في عام 2003 ، مثال: كان يحكم إحدى محافظات كردستان “فرانسو حريرى” – مسيحى الديانة.. لم يبقوا عليه وقتلوه.. فالوضع في اربيل ليس فقط خلايا نائمة – كما يقول البعض – إنما هنا خلايا مستيقظة أيضا.. وإن لم تنتبه “كردستان” وتحاسب كل من يمارس أو يتفوه بالتطرف ربما تقوى شوكتهم، فكردستان الأن صارت ملاذا للكل.
ويتهم “فارس” بغداد بتوريد داعش لكردستان قائلا: ” السبب الحقيقي لهجوم داعش على كردستان “قاسم سليماني” – قائد فيلق القدس ببغداد الذي أعلنها على لسانه “وردت للأكراد داعش”. وللأسف يقع المواطن العراقي الأعزل ضحية هذه الحرب بها مصالح داخلية وخارجية إقليمية، فمن ناحية الداخل فتح جبهة جديدة لداعش لتخفيف الضغط على حكومة بغداد.. تعريب كردستان بالمهجرين مثلما تفعل اسرائيل بتهويد القدس فتدفع بالعرب خارجها.. هؤلاء يدفعون بالعرب داخل كردستان لتعريبها والعراق حتى دستورها لا يذكر أنها دولة عربية فالعراق دولة أسيوية ذات مزيج حضارات مختلفة. حتى لو حاول الأكراد الاستقلال مقدما يكون العرب المهجرين الذين استوطنوا الإقليم عقبة فى طريق استقلالهم.”
شهادات حية من المخيمات:
اللحم المسيحي ملقى بشوارع محافظات كردستان.. فالمسيحيين يرفضون فكرة المخيمات المشيدة خارج المدينة.. لذلك أقامت لهم الكنائس مخيمات فى القاعات والحدائق، وجهزت حكومة أربيل مخيمات بالمدارس.. إذ يوجد 26 مخيم للمسيحيين فى “عنكاوا” فقط .
في المدارس كل مدرسة 8 فصول فقط.. الفصل غرفة والغرفة تسكن بها ثلاث عائلات.. بالنهار الجو حار جدا يحتمون من الشمس تحت خيامهم أو في الغرف المدرسية.. لكن فى المساء تراهم يخرجون إلى الشوارع. يصطفون على الأرصفة كالمتسولين.. وقد كان لكل واحد منهم شأنه الرفيع.. طفت عليهم نهارا وليلا.. أقوياء فرحين بالفرار.. نيتهم ووجهتهم المغادرة خارج العراق.. لكن بالقلب مرارة الإجبار على ترك الديار.
فى الكنائس افترش النازحين الأرض.. وجوههم تبتسم فرحين بالنجاة من سبي نسائهم بينما تعتصر قلوبهم غربة ولجوء.. حول احد القساوسة التفت مجموعة كبيرة كل يمسك باستمارة فى حرص ولهفة.. فسألت عن السبب.. قالوا إنها أوراق الهجرة.. طلبات للمغادرة الأخيرة من ذاك الوطن.. الذي تحرقه الأن المعارك الطائفية الطاحنة.. من نزوح إلى نزوح صار حالهم فلما يبقون؟ هكذا قال بعضهم..
ثم تركتهم وعدت إلى – القس الدكتور يوسف البنا راعى كاتدرائية مار افرام بالموصل .. مثلهم نازح ويقول:” كنت راعي للكاتدرائية التي تم تحويلها الأن إلى مسجد ومكتوب عليها “الدولة الاسلامية – دولة الخلافة”.. تركنا الموصل مجروحين مهزومين.. الدول الأروبية صدرت لنا الإرهاب لتتخلص منه على حساب المنطقة كلها.. و نحن الأقليات المسيحية ندفع الثمن دائما.. لدي هنا فقط في كنيسة مار يوحنا 1650 استمارة للهجرة.. كل استمارة تخص عائلة.. أي عدد طالبي الهجرة حتى الأن متوسطه حوالي عشرة ألاف طلب.”
و يكمل القس في مرارة: “الناس رغبتها تهاجر وليس بيدينا شىء نفعله.. ومخطط تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين يسير وفق الأجندات التي خططتها الدول ذات المصالح و نحن اجبرنا على ترك ديارنا وأوطاننا.. هؤلاء الضحايا ما ذنبهم ليفترشوا الأرض هكذا؟!
أما الخورى قرياقوس من برطلة التي تبعد 20 كم عن الموصل، يجلس في قاعة كنيسة مار يوحنا للسريان الأرثوذكس بين النازحين لأنه نازح مثلهم وحاله مثل حالهم، يقول: ” تركنا ديارنا وخرجنا بمجرد علمنا بما فعلوه بالايزيديين.. سترنا أنفسنا وخرجنا.. خرجت وتركت مكتبتي بها ثلاث ألاف كتاب وبها مخطوطات.. فماذا كنت أفعل والإرهاب يقتحم بيوتنا وكنائسنا؟”
ومن الكنيسة إلى مخيم “مارعودا” بمنطقة عنكاوا – وسط اربيل، ذات كثافة مسيحية بالأصل إذ كان يسكنها 35 ألف مسيحي، ونزح إليهم 35 ألف آخرين.. فاكتظت المنطقة بالبشر.. يمكثون أمام الأبواب.. لا عمل ولا أمل ولا رجاء في الغد الأفضل..
اقتربت من إحدى النساء، إنها “رجاء” ولها أربعة أطفال من منطقة “الساعة” – بالموصل تقول: “في البداية جاءوا على أنهم ثوار ضد المالكي، استمروا بيننا شهر يوهمونا حتى توغلوا واجروا اتفاقات مع بعض العشائر.. قالوا لنا: جئنا نخلصكم من ظلم نوري المالكي .. لم نستطيع أن نفعل شيئا.. قالوا: جئنا نجلب الحرية في الموصل.. صدقناهم.. وفجأة انقلبوا علينا بعد أن تضامنت معهم العائلات العربية السنية التي اضطهدتهم حكومة المالكي.. ثم بدأوا يمنعونا من الخروج وفرضوا علينا الحجاب.. و السيدة المسيحية تخرج بمرافق معها.. ثم كتبوا قوانين وأنظمة وعلقوها بالشوارع.. صاروا يصيحون عبر مكبرات الصوت بالمساجد التي مكنهم منها بعض الشيوخ.. و يضعون لنا المنشورات تحت الأبواب.. إما الإسلام أو الهجرة أو الجزية.. لكننا ليس لدينا أموال.. ثم اعطونا مهلة ثلاثة أيام.. في الرابع خرجنا من ديارنا.. كل عائلة كانت تخرج يكتبون على عقارها حرف ” ن ” – أي عقار مسيحي صار ملكا للدولة الإسلامية.. حتى جيراننا سلمونا..”
اقترب منا رجل أثناء حديث “رجاء” وتدخل في الحوار.. إنه زياد سلمان – نازح ومسئول عن مخيم مار عودا بأربيل قائلا: “السنة لم يكونوا راضيين عن حكم الشيعة.. لذلك أهل المنطقة ارشدوا عن بيوتنا.. والمالكي سلم الموصل للدواعش.. لماذا سقطت الموصل بالرغم من انه كان بها كان بالموصل 60 ألف مقاتل من الجيش العراقي.. سلموها بدون طلقة واحدة وتركوها و فروا لتقع الأسلحة المتطورة التي كانت بأياديهم فى يد داعش تقتلنا و تبيد قرانا بها.”
من الموصل إلى “قراقوش حمدانية” – قرية بالقرب منها، خرجت “فادية” التي تسكن مخيم “مارعودا” بعنكاوا وقالت:” نشكر الله أنه لم يحدث لنا ما حدث لبنات الايزيديات.. بمجرد أن وقعت الهاونات على منزل بالقرب منا بالحمدانية قتل طفلين ووالدتهم.. خرجنا فارين.. لكننا أفضل حالا ممن خرجوا من الموصل، على الأقل اخذنا أوراق هوياتنا و بعض المقتنيات الخفيفة.”
وعن مساعدات إقليم كردستان تقول فادية:”الإقليم لم يقصر معنا، لكن في النهاية النتيجة أننا نرقد بالمخيمات.. انتشر المرض بين الأطفال.. وليس لدينا علاج أو أدوية فكل ما يأتينا يتعلق بالأغطية والأغذية.. نعلم أن حكومة الإقليم غير قادرة على الوفاء بمتطلبات كل النازحين.. الأعداد كبيرة والقهر كان ثقيل. فكلنا نزحنا خوفا و سترا لنا.”
“أم ديانا” إمراة شابة من الموصل – منطقة خزرج – الساعة، تقطن مخيم مارعودا بعنكاوا – اربيل تروى تفاصيل ليلة الخروج قائلة: “في البداية كانت مناوشات، كنا نجد في أوقات داعش موجودة ثم نفاجأ بالبشمركة سيطرت ثم العكس.. أربعة أيام لم نخرج من منازلنا.. فى اليوم الرابع انهالت الطلقات كالمطر.. كسروا الباب علينا خمسة مسلحين في بيتي وكانوا مكشوفي الأوجه ومعروفين .. منهم من خرجوا من السجون وكانوا من أهل المنطقة وأتى معهم جيراننا ليرشدوا عنا.. اخذوا كل شىء ثم خربوا المنزل وكسروه.. كتبوا على بيتي “ن – ملك الدولة الاسلامية”.. اخرجونا سيرا على الأقدام الساعة 2 صباحا.. هجروا الجميع وقتلوا كل من له صفة أمنية ولأن زوجي ضابط شرطة كان مطلوبا منهم.. خرجنا فارغي الأيادى إلا من أولادنا و نحمد الله على ذلك.. كل الناس طلعت من بيوتها مسيحيين ومسلمين.. خرجنا من الحي الزراعى إلى سيطرة – حدود – تلكيف.. في قرية “بعشيقة” استقبلتنا البشمركة بالسيارات كنا نقع في الطريق من التعب.. مرتين نزحنا مرة من “الموصل” والثانية من “قراقوش” وإلى هذا وصل حالنا مفترشين الأرض فى حديقة عامة.”
“نوار إلياس” – ضابط شرطة : “دخلت داعش صارت مواجهات بين الشرطة والجيش من ناحية وبينهم من ناحية أخرى. في البداية كانوا حوالي خمسة ألاف وأسلحتهم منتطورة أكثر من اسلحتنا.. في 10 يونيو دخلوا كسروا علينا الباب وطلبوا مننا: اذا تريدون تنزلوا على الموصل تعالى أعلن الشهادة وصير مسلم وانضم لنا – لكن نحن لم نقبل أن نترك ديننا.. طردونا ولم نخرج إلا بأولادنا وحاليا أنا مطلوب من داعش ولا أشعر بالأمان حتى في أربيل.. ولم تفعل الدولة لي أي شىء حتى راتبى – لي شهرين لم اتقاضاه – وصرت نازح مثل كل النازحين وفقدت كل شىئ.. صاحوا بمكبرات الصوت: أن نوار مطلوب إن لم يعلن الشهادة هو وعائلته”
“رعد خضر داود” من “قضاء الحمدانية” يروي: “والدي وعمي وأولاد وبنات عمي لا نعرف شيئا عنهم أبدا، فلم يستطيعوا الخروج، أسمائهم “فيكتوريا عجلة”، “إلياس عجلة”، “خالد عجلة”، “خضر عجلة”، “سالم عجلة” و”جاكلين”.. تليفوناتهم يرد عليها الدواعش ويقولوا: بعد يومين يجيكم خبرهم.. و حتى الأن لا نعرف عنهم شيئا.”
اصطحبني شاب من خيمته إلى خيمة جيرانه حيث سيدة في نهاية العشرينات حامل في الأيام الأخيرة.. وقالت حماتها “زوجة إبني حامل في الشهر التاسع وستلد خلال أيام.. ماذا أفعل لا توجد إغاثات طبية كافية ولا نستطيع تأجير بيت فلا عندنا إمكانيات.. أين المطالبين بحقوق الانسان وحكومة اربيل؟! مشكورة تمنحنا الأغذية والأغطية وحليب الأطفال وحفاضات والأدوية، ولكن لا يمكن أن تلد زوجة إبنى في الخلاء في حديقة هكذا..”
“عايدة حنا نوح” من قراقوش – حمدانية، تقطن مخيم “قاعة مرحبا – عنكاوا” تقول: “جهزوا لنا ميكروباص زجوا بنا إليه، كنا 30 فرد فقط بالموصل من المسيحيين الذين لم نتمكن من الخروج في المهلة المحددة وهى ثلاثة أيام.. جلسنا في السيارة وكان معي ابنتي عمرها ثلاثة سنوات.. وزوجي الكفيف.. فجأة صعد احدهم إلي واختطف البنت من حضني.. صرخت وصحت في وجهه.. نزلت خلفه فركلني.. جثوت على ركبتي متوسلة إياه أن يرحمني و يرحمها و يتركها لي، فماذا سيفعل بطفلة عمرها ثلاث سنوات.. وجه مسدسه إلى صدري ورأسي وهددنى بالقتل وأجبرني على الصعود للسيارة تاركة لحمى بين يد الإرهابيين.. ولا أعلم أي شىء عنها حتى الأن.. هذه بطاقة هويتي و هويتها هي لكم انشروها ربما تعيدوها لي. وصلنا سيارة داعش و سد خازار انزلونا بالمياه و جزنا فيها.. داخل مياه السد التي تصل الى 75 سم تقريبا.”
أما “موياد ياندام” – يقطن مخيم مار تشموني بعنكاوا: ” ننام بالأرض ونحن بلد غني و نفطي وأين الحكومة.. الدواعش سرقوا فلوسنا وذهبنا.. أريد المسئولين يشوفوا معاناتنا نحن والكاكيين موجودين معنا هنا في نفس المخيم”
تركته، وعبرت إلى الجانب الآخر من المخيم حيث وقفت سيدة في الخمسينات من عمرها كانت ترقبنا بأعينها أملا في الحديث عن وجيعتها.. إنها “أمل توفيق” النازحة من قراقوش: ” إبنى في المرحلة الأخيرة وبقية الأبناء في مراحل دراسية مختلفة، الدراسة على الأبواب ولا أمل في الالتحاق بها.. كان الابن الأكبر متفوق والأن صار بالشارع.. مستقبل أولادنا ضاع وما لدينا سوى الهجرة خارج العراق حل.”
العجائز و الصبايا و الشباب كل على حد سواء المرار ملء الحناجر والحروف تقطر قهرا.. عن ما حدث بالموصل، يقول “سرور شابا بولص“ – إعلامي – مقدم برامج في إذاعة صوت الموصل – يسكن منطقة “برطلة” بالموصل ونازح إلى أربيل يقول: “من ناحية “برطلة” التى على بعد 20 كم عن الموصل بدأ الضرب من 10 صباحا.. ذهبت في زيارات لأكثر من مكان لمقار أحزاب البشمركة لألتمس كلمة تبعث على الاطمئنان.. أبلغنا المسئولين عن الأمن أنه لا يوجد أي قلق والمنطقة آمنة والبشمركة ستقاتل داعش إلى آخر نفس.. و عليه أبقينا الشباب لكن أخرجنا الشيوخ والأطفال والنساء.. و بقي الشباب لحرس المنطقة من السرقة بعد اخلائها والبشمركة لحماية المنطقة.. فى 7 اغسطس مساء سمعنا صوت المدافع وكان من قبل قوات البشمركة تضرب داعش من ناحية “برطلة” إلى قرية “على رش” تابعة للموصل وقريبة من “برطلة”.. في الثانية صباحا كنا نحرس المنطقة فرأينا البشمركة تنسحب بدون مقاومة من مناطقنا انسحابا كاملا مفاجئا.. مع آلياتهم وعتادهم وأبلغونا أنه ما عاد لديهم سلاح للمقاومة والحراسات ليس لها قوة للمحاربة لأنهم قوة حراسات وليسوا قوة محاربة.
بعد ساعة من انسحاب البشمركة صرنا مجبورين على الخروج لأن داعش اقتربت من مناطقنا وصارت الطلقات تدوي قريبة منا.. انسحبنا وخرجنا من المنطقة حتى وصلنا إلى سيطرة – حدود – خازر، وداعش وراءنا.. في السادسة صباحا وصلنا الخبر أنهم دخلوا المنطقة في “برطلة” واحتلوها.. وتم انسحاب البشمركة لحدود خازر.. و حينما احتلوا “برطلة” اتخذوا من كنيسة “مار تشموني” للسريان الارثوذكس مقرا لهم.. كسروا الصليب وانزلوه واتخذوها مقرا لدولة الخلافة.. ثم استولوا على المقار الحزبية.
كانت برطلة فيها 2400 عائلة سريانية أرثوذكسية و 700 عائلة للسريان الكاثوليك.. انسحبت كلها.. جاءوا أعلى اقليم كردستان والمحافظات الأمنة.. اكثر المحافظات اكتظاظا بالنازحين السريان المسيحيين كانت اربيل منطقة عنكاوا التى تضم 1400 عائلة والبقية من السريان انتشروا فى باقى محافظات اقليم كردستان وخاصة القرى التابعة لمحافظة دهوك التى هى بالأصل قرى كلدانية و اشورية.”