لما كانت النجوم تتألق في سماء مصر الصافية في حسن لا يحيط به الوصف، فإن أنظار سكان وادي النيل لابد وأن تكون قد اتجهت إليها منذ العصور مبكرة جداً ، ومع أن المصريين لم يقدموا لها فروض العبادة بوصفها آلهةً كما كان الحال في بلاد “بابل” و”آشور”، إلا أنهم ربطوا البعض منها بأرباب معينة، فصار نجم “الشِّعرى” يعد روحاً للمعبودة إيزيس، وصار النجم “أوريون” روحاً للمعبود حورس ، ويبدو أنه إلى جانب هذه النظرة ذات النزعة الدينية للنجوم، فقد كوّن المصريون في الدولة الحديثة مبادئَ علم فلك حقيقي،فقد اصطنعوا جداول غريبة بيَّنوا فيها مواقع بعض النجوم ، بغرض تحديد الوقت، وقياس الزمن.
هذا ما أوضحه الأستاذ الدكتور عبد الحليم نور الدين، عالم المصريات وأستاذ اللغة المصرية القديمة، بكلية الآثار، جامعة القاهرة فى الدراسة التى أعدها تحت عنوان “الفلك فى مصر القديمة ” مؤكداً على ان المصادر المصرية القديمة تزخر بالكثير من الأدلة التي تبرز معرفة المصريين بعلم الفلك، وقدرتهم على استخدام هذا العلم في الكثير من جوانب حياتهم. ولقد لعبت الشمس كجرم سماوي دوراً كبيراً في معتقدات المصريين، وفي حياتهم العملية ، حيث اهتدى علماء مدينة “أون” إلى معرفة وابتداع التقويم الشمسي حيث احتسبوا أيام السنة على أساس 365 يوماً، وقسموها إلى اثني عشر شهراً، ضمّنوا كل شهر منها ثلاثين يوماً، ثم اعتبروا الأيام الخمسة الأخيرة أعياداً تحتفل فيها الدولة بمولد الأرباب “أوزيريس ، إيزيس ،ست، حورس، وهي الأيام التي عرفت باسم أيام النسيء الخمسة، والتي تحتفظ بها السنة “القبطية” حتى الآن ، ومما لا شك فيه أن ابتداع المصريين للتقويم الشمسي لم يكن بالأمر الهين؛ إذ كان يتطلب ملاحظة مضنية، يصاحبها نضج عقلي واسع.
الفيضان والتقويم النيلي
ان المصريين اهتدوا قبل التقويم الشمسي إلى التقويم النيلي ، حيث أوضح الدكتور نور الدين ان التقويم النيلى هو الذي يبدأ ببداية وصول فيضان النيل إلى منطقة معينة ذات أهمية سياسية أو قيمة حيوية ، وطوال احتفالهم بوفاء نيلهم بقدوم الفيضان، لاحظ قدماء المصريين شيئا فشيئاً أن هذا الحدث يقترن بظاهرة سماوية معينة بعينها، وهى استمرار ظهور نجم “الشَّعرَى اليمانية” ذي الضوء الساطع، والذي اعتبروه أنثى، وأطلقوا عليه اسم “سوبدة” ، وأصبحوا يترقبونها عن قصد، وأطلقوا على هذا النجم اسم “جالبة الفيضان” ، واعتبروا خلال التاريخ المصري يومَ بدء فصل الفيضان -الذي يوافق بزوغ نجم الشعرَى اليمانية – بمثابة رأس السنة ، وجدوا ان السنة 365 يوما وقسموها الى ثلاث فصول كل فصل أربع شهور ، وهذه الفصول هى فصل الفيضان”آخت” ويبدأ من منتصف شهر يوليو، وحتى منتصف نوفمبر ويتم فيه بذر الحبوب ، الفصل الثانى ” ﭙـرت” ويبدأ من منتصف شهر نوفمبر، وحتى منتصف مارس وهو فصل الإنبات وخروج الزرع من الأرض ، الفصل الثالث ” شمـو” ويبدأ من منتصف شهر مارس، وحتى منتصف يوليو ويتم فيه نضج النبات وحصاده، وتصاب فيه الأرض بالجفاف.
الزراعة و الأشهرالقبطية
وذكر الدكتور نور الدين أن أسماء الأشهر القمرية المسماة بالأشهر القبطية والتي لا زلنا نأخذ بها في الزراعة في زمننا الحالي، إنما هي أسماء مصرية قديمة ، حيث ان شهر توت يعد أول شهور السنة القبطية وينسب إلى الإله المصري تحوتي إله القمر والحكمة ، شهر بابة نسبة إلى عيد (إبت) وهو عيد انتقال الإله آمون من معبده في الكرنك إلى معبده في الأقصر، شهر هاتور نسبة إلى الإلهة حاتحور إلهة العطاء والحب والموسيقى ، شهر كيهك ينسب الى عجل ابيس المقدس ، شهر طوبة ينسب لأمون رع اله طيبه ، شهرأمشير نسبة الى إله الزوابع ، شهر برمهات نسبة إلى عيد يتعلق بالملك أمنحتب الأول الذي نال قدسية معينة في مصر القديمة، شهر برمودة نسبة إلى إلهة الحصاد ، شهر بشنس نسبة إلى الإله خونسو إله القمر وممثل دور الابن في ثالوث طيبة ، شهر بؤونة نسبة إلى عيد الوادي الذي ينتقل فيه آمون من شرق النيل إلى غربه لزيارة معابده الكائنة هناك، شهر أبيب نسبة إلى هابي اله النيل ، شهر مسره نسبة إلى ولادة الاله رع.
وسائل قياس الزمن
وبحسب الدكتور نور الدين فإن المصريون عرفوا وسائل قياس الزمن فهناك ساعات الليل، وأخرى للنهار. ومن بين وسائل قياس ساعات الليل الساعة المائية، والتي يرجع أقدم مثال لها لعهد الملك “أمنحتـﭖ الثالث”، والتي عثر عليها في معبد الكرنك، وهي على شكل إناء من الحجر، به ثقب بالقرب من القاعدة، صورت على سطحه الخارجي مناظر فلكية، بينما قسم السطح الداخلي إلى خطوط أفقية تحدد المستوى الذي وصلت إليه المياه في شكل ساعة، وتقسيمات رأسية تحدد كل شهر من السنة ، كما قيست ساعات النهار بأنواع أخرى من الساعات تعتمد أساساً على الظلال بتحديد اتجاهها أو طولها أثناء النهار؛ حيث لاحظ المصري أن طول الظلال أثناء ساعات النهاريختلف حسب فصول السنة.
نصوص الأهرام
وتزخر مقابر المصريين ومعابدهم ووثائقهم البردية بمناظر سماوية، وذلك من منطلق أن غالبية الكائنات الدينية والجنائزية قد اعتبرت بصورة أو بأخرى كائنات كونية ، وأوضح الدكتور نور الدين العديد من الأمثلة منها ربة السماء “نوت” اعتقد المصريون أنها تنشر جسدها السماوي الممتلئ بالنجوم فوق الأرض، وبهذا يمكنها أن تحمى المعابد ، وفي نصوص الأهرام ما يؤكد إيمان المصريين بأن الموتى يمكن أن يولدوا من جديد على هيئة نجوم قطبية، الأمر الذي أدى إلى تصوير عدد من النجوم على أسقف وجدران غرف وحجرات الأهرامات التي دونت بها نصوص الأهرامات. ومن بين تعاويذ نصوص الأهرام ذلك النداء الموجّه للربة “نوت” بأن تعطي المتوفى جسدها حتى يتمكن من أن يتبوأ مكانه بين نجوم السماء التي لا تفنى، وبذلك يحظى بحياة أبدية ، ومن أقدم النصوص المرتبطة بالفلك هي التقويمات أو الساعات النجمية المرسومة على أغطية التوابيت الخشبية، والتي ترجع للدولة الوسطى (القرن 20 ق.م) ، ومنذ الدولة الحديثة شغلت المناظر الفلكية مساحات كبيرة من أسقف العديد من المعابد ومقابر الملوك والأفراد، وهي مناظر تمثل المجموعات النجمية، والأجرام السماوية، والكواكب، والأشهر القمرية، وساعات الليل والنهار؛ ولعل أشهرها تلك التي تضمها مقبرة سيتي الأول في وادي الملوك، ومعبد رعمسيس الثاني في غرب طيبة، ومقبرة سننموت مهندس الملكة حتشبسوت وغير ذلك.
اليونانيين والأرصاد الفلكية
وأضاف الدكتور نور الدين أن العلماء اليونان لم يهتموا بالأرصاد الفلكية، وإنما اعتمدوا على أرصاد المصريين والآشوريين القدماء في تحقيق نظرياتهم عن الكون، وحركة الأجرام السماوية.وإذا كانت الحضارة اليونانية وكذلك الرومانية تدينان بالكثير من الفضل للحضارة المصرية، فإن الفضل واضح في مجال علم الفلك؛ فعلماؤهم يذكرون صراحةً مدى استفادتهم من تجارب المصريين في مجال الفلك، إذ جاءوا إلى مصر إلى “عين شمس” و”منـف” وغيرها من المدن الهامة، لينهلوا من علم علمائها وكهنتها؛ ومن أشهر هؤلاء “فيثاغورس”، و”أرشميدس” ، وقد أصبحت مدينة “الإسكندرية” – بعد أن أسسها “الإسكندر الأكبر” (الثالث) 332 قبل الميلاد – قبلة العلماء في الرياضيات والفلك، وذلك بعد أن أقيم متحف يضم مكتبة لرصد الأجرام السماوية.