منذ أن وضعت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيتها الكونية “للحرب على الإرهاب”، صار الأمن أكثر من مجرد إجراءات أو تدابير، أو حتى مجرد وسيلة للقمع، بل “قيمة عليا”، إن لم تكن القيمة الحاكمة لسائر القيم كالحرية والمساواة والعدالة. فكل هذه القيم باتت قابلة، عن طيب خاطر، أن تزاح جانبا حتى تفسح الطريق للأمن حتى يمر ويحتل مواقعه ويراقب الأجساد والعقول. وبما أن الحرب على الإرهاب كانت الاستراتيجية الأوسع انتشارا فى عصرنا الحديث، حيث تبنتها كل السلطات، فقد كان من الضرورى أن يستشرى الإرهاب فى كل مكان حتى تجد استراتيجية الحرب على الإرهاب معنى وشرعية، وحتى يبرز الأمن كقيمة عليا. ولكى يصبح الأمن قيمة فقد تطلب الأمر أن يصبح الخوف عادة يومية، فقط علينا أن نخاف من شئ ما يتربص بنا ليس فقط من جهة حدود الدولة وفق الحسبة التقليدية لمواجهة العدو، ولكن من داخلنا ومن حيث لا ندرى. ولذا فإن عملية الترويج للأمن تطلبت أن يكون الأمن شأنا شخصيا. ولعل النداء الذى يعلن أن “الأمن مسئولية كل فرد “Security is Everyone’s Responsibility الذى بات شائعا فى المطارات والتجمعات هو التعبير الأمثل عن واقع تطبيع المطلب الأمنى، اى أن يصير حاجة طبيعية.
وباستثناء أوقات الحروب والنزاعات، لا أتصور أن العالم شهد عمليات تطبيع للأمن كما هو شائع الآن، فالأسوار تعلو، وكاميرات المراقبة تنتشر على أسطح المبانى وداخل المحلات وفى الصالات والمصاعد والممرات، وأجهزة التفتيش منصوبة فى كل مداخل المطارات والفنادق والشركات والبنوك، وكلاب الحراسة صارت مشهدا مألوفا فى المدن، إلى غير ذلك من تدابير واجراءات. أما نحن، فإننا قد نفعل ما هو أكثر من الاستجابة لهذه التدابير والإجراءات، فالخوف، الذى أصبح عادة، يجعلنا نتعايش مع الحالة الأمنية وقد ننزعج إذا ما غابت فى بعض الأحيان، كأن تصعد طائرة بدون إجراءات تفتيش صارمة. فما علينا إلا ان نرفع صوتنا وننبه السلطات بغياب الأمن، وانها سلطات رخوة لا تبذل ما يكفى من الجهود لتعزيز الأمن ونشره.
ومآساة الربيع العربى انه بدا وكأنه كسر لزمن الخوف والحرب على الإرهاب، ولكن سرعان ما اكتشفنا أننا كان نسرع الخطى فى اتجاه ظننا أننا نسير عكسه. فالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، تم دحرها لصالح الآمن، فكان تطبيع الخوف هو المحصلة الأهم والأخطر لما يسمى الربيع العربى. وسرعان ما تبين أن الدور الوظيفى للخوف أكبر بكثير مما كنا نتوقع، فالخوف يمتلك قوة مزدوجة: الحشد والتفريق، ففى مقدوره ان أن يحشدنا على أساس أن التهديد قابع على حدودنا، وفى مقدوره أن يفرقنا باعتبار التهديد قد يتفجر من داخلنا. وهنا يأتى الطلب على الأمن ليس لأنه يحمينا، ولكن لانه يتغذى على مخاوفنا: مزيد من الخوف لمزيد من الأمن، ومزيد من الأمن بمزيد من الخوف.
ولو افترضنا أن الأمن الذى يجرى تصديره وإشاعته هو أكثر من إجراءات وتدابير، بل قيمة علينا أن نتمسك بها أو نرضخ لها، فإنه فى الحقيقة قيمة بلا قيمة فعلية، لأنه لا يحررنا من الخوف بل يخلقه ويعززه، ومن أجل ذلك، فإنه يؤدى فى نموه وانتشاره إلى تدمير القيم الإنسانية الأخرى، كالحرية والمساواة والعدالة. وتبقى المعادلة السلبية وهى أن الأمن بصورته الراهنة لن يحررنا من الخوف، كما أن الخوف، بتحوله إلى عادة، لن يحررنا من أمن بلا أمان.