مكتوب في ميخا6: 8 ” قد أخبَرَكَ أيُّها الإنسانُ ما هو صالِحٌ، وماذا يَطلُبُهُ مِنكَ الرَّبُّ: إلا أنْ تصنَعَ الحَقَّ وتُحِبَّ الرَّحمَةَ، وتسلُكَ مُتَواضِعًا مع إلَهِكَ”.
بادئ ذي بدء كان ميخا المورشتي من قرية صغيرة إسمها مورشت ” ومعنى اسمه ” مَنْ مثل الرب” ويبدو أنه وُلد في عائلة فقيرة، وكان المجتمع الذي يعيش فيه يعاني من المسافة الشاسعة بين الأغنياء والفقراء حيث انتشر الجشع والظلم والسلب والنهب مما دفع ميخا أن يهب مدافعاً عن حقوقالإنسان الضائعة، لقد أبصر ميخا القسوة والوحشية والفساديستشري في القيادات فسحقوا الفقراء والضعفاء تحت أقدامهم، ذهب ميخا بعد أن إمتلأ بروح الله للدفاع عنهم وتحدث عن الخراب والدمار الذي سيلحق بشعبه نتيجة الإثم والشر،ويبدو أن البعض سألوا الله عن طريق ميخا ” بمَ أتَقَدَّمُ إلَى الرَّبِّوأنحَني للإلَهِ العَليِّ؟ هل أتَقَدَّمُ بمُحرَقاتٍ، بعُجولٍ أبناءِ سنَةٍ؟ هل يُسَرُّ الرَّبُّ بأُلوفِ الكِباشِ، برِبَواتِ أنهارِ زَيتٍ؟ هل أُعطي بكري عن مَعصيَتي، ثَمَرَةَ جَسَدي عن خَطيَّةِ نَفسي؟ “(ميخا6: 6، 7).على أن الله أجاب عن إنتظاراته من الإنسان في آية ذهبية كان ينادي بها ميخا في شعبه ومجتمعه وهي ” قد أخبَرَكَ أيُّها الإنسانُ ما هو صالِحٌ، وماذا يَطلُبُهُ مِنكَ الرَّبُّ: إلا أنْ تصنَعَ الحَقَّ وتُحِبَّ الرَّحمَةَ، وتسلُكَ مُتَواضِعًا مع إلَهِكَ”(ميخا6: 8).
وهنا نجد ميخا يقدم ثلاثة إنتظارات للرب من الشعب وهي:-
1. صناعة الحق (تصنع الحق)
إن الإيمان ليس كلاماً أو شعاراً بل يجب أن نجسده في إعلان وإعلاء الحق فنكون وكلاء أمناء على ما أوكلنا الله إياه،والحق أولاً يبدأ تجاه الله فما نحن إلا وكلاء في كل شيء،ويجب أن نعطي ما للهِ للهِ وما لقَيصَرَ لقَيصَرَ ثم يتجه الحق نحوالآخرين فلا نكيل بكيلين ثم نزن بميزانين، والحق تجاه النفس هو أن نمتحن أنفسنا ونراقبها ونقومها دون تساهل أو تهاون معها.
والكنيسة التي هي جماعة من المؤمنين يجب أن تكون كما رسمتها ريشة الوحي المقدس عَمودُ الحَقِّ وقاعِدَتُهُ (1تي3: 15)فدور الكنيسة أن تثبت وترسخ قيم الحق والعدل في المجتمع،وأن تعلنه واضحاً لكل الناس.
والدارس لكلمة الله يرى أن رجال الله كانوا دائماً يعلنون الحق بكل جسارة وشجاعة دون خوف أو تردد، وبدون حساب لأي ترغيب أو ترهيب، ومهما كان الثمن أو الضريبة، كانوا يدينون الظلم الاجتماعي، والغش، والاستغلال، والفساد بكل أشكاله وألوانه، كانوا يريدون إرساء قواعد أخلاقية جديدة فتسجل كلمة الله عن موسى في (خروج 7، 8، 9) أنه كان يقف أمام فرعونوبكل قوة وحسم يقول لفرعون: “هكذا قال الرب أطلِقْ شَعبي ليَعبُدوني” ويعلن تهديد وعقاب الله له إذا لم يسمع وينفذ النداء.
ونقرأ في سفر ملوك الأول ص21 أن أخاب بعدما سلب كرم نابوت اليزرعيلي ودبر جريمة مقتله بالتنسيق مع زوجته الشريرة إيزابل، جاء إيليا إلى آخاب وقال له:” هكذا قالَ الرَّبُّ: هل قَتَلتَ ووَرِثتَ أيضًا؟ … في المَكانِ الذي لَحَسَتْ فيهِ الكِلابُ دَمَ نابوتَ تلحَسُ الكِلابُ دَمَكَ أنتَ أيضًا”(1مل21: 19).
ونقرأ في سفر دانيال كيف رفض الفتية الثلاثة السجود لتمثالالذهب الذي نصبه نبوخذ نصر بالرغم من تهديدهم بإلقائهم فيأتون النار وقالوا بكل ثقة ويقين للمَلِكِ:” هوذا يوجَدُ إلَهنا الذي نَعبُدُهُ يستطيعُ أنْ يُنَجِّيَنا مِنْ أتّونِ النّارِ المُتَّقِدَةِ، وأنْ يُنقِذَنا مِنْ يَدِكَ أيُّها المَلِكُ. “(دا 3: 16- 18).
ونقرأ عن دانيال كيف تحدى الملك داريوس، وكيف رفض بإصرار الخنوع والرضوخ لفرمان ملكي يمنعه من اللجوء إلى الله في تقديم طلباته فمكتوب في (دا6: 10) ” فلَمّا عَلِمَ دانيآلُ بإمضاءِ الكِتابَةِ ذَهَبَ إلَى بَيتِهِ، وكواهُ مَفتوحَةٌ في عُلِّيَّتِهِ نَحوَ أورُشَليمَ، فجَثا علَى رُكبَتَيهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ في اليومِ، وصَلَّى وحَمَدَ قُدّامَ إلَهِهِ كما كانَ يَفعَلُ قَبلَ ذلكَ”.
وعندما طرحوه في جب الأسود لم يتراجع عن قراره، ولهذا حفظه الله وصاح صيحته التي مازال يتردد صداها إلى اليوم وهو يهتف قائلاً :” إلَهي أرسَلَ مَلاكَهُ وسدَّ أفواهَ الأُسودِ فلم تضُرَّني، لأنِّي وُجِدتُ بَريئًا قُدّامَهُ، وقُدّامَكَ أيضًا أيُّها المَلِكُ، لم أفعَلْ ذَنبًا”(دا6: 22).
وفي العهد الجديد نقرأ عن يوحنا المعمدان وشجاعته في إعلان الحق فمكتوب:” لأنَّ هيرودُسَ نَفسَهُ كانَ قد أرسَلَ وأمسَكَ يوحَنا وأوثَقَهُ في السِّجنِ مِنْ أجلِ هيروديّا امرأةِ فيلُبُّسَ أخيهِ، إذ كانَ قد تزَوَّجَ بها. لأنَّ يوحَنا كانَ يقولُ لهيرودُسَ:”لا يَحِلُّ أنْ تكونَ لكَ امرأةُ أخيكَ”(مر6: 17، 18).
كان ميخا واحداً من أعظم الأبطال الذين وقفوا إلى جانبالمظلوم والفقير والضعيف والمستعبد، لقد كان ميخا النبيالعظيم الذي استخدمه الله لنصرة المظلومين التعساء.
والسؤال كيف يمكن لميخا وهو رجل فقير من عامة الناس أن يقف في وجه السادة والرؤساء؟!، وكيف يستطيع أن يندد بآثامالمجتمع التي يبصرها دون خوف أو تردد أو تراجع؟!
لقد كشف ميخا عن السر عندما قال: “لكنني أنا مَلآنٌ قوَّةَ روحِ الرَّبِّ وحَقًّا وبأسًا، لأُخَبِّرَ يعقوبَ بذَنبِهِ وإسرائيلَ بخَطيَّتِهِ”(ميخا3: 8).
إن ميخا وحده لا يقدر أن يرفع صوته في مواجهة الفساد والطغيان، ولكن ميخا وقد امتلأ من روح الرب أضحى ممتلئاً من القوة والحق والشهادة.
ثانياً: محبة الرحمة (وتحب الرحمة)
جميل أن الإنسان يقول الحق ويعيش بالحق، وجميل جداً أن يحب الرحمة، وأن يمتلئ قلبه بها، وأن يشفق على الآخرين، وأن يتسامح معهم، فليس أجمل من أن نمد أيدينا إلى العاثر والمنكوب والمتألم والعاجز والضعيف فمكتوب “طوبَى للرُّحَماءِ، لأنَّهُمْ يُرحَمونَ “(مت5: 7).
لقد استهل الرب يسوع خدمته بقراءة ما ورد عنه في سفر(إشعياء 61: 1- 3) ” روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ علَيَّ، لأنَّ الرَّبَّ مَسَحَني لأُبَشِّرَ المَساكينَ، أرسَلَني لأعصِبَ مُنكَسِري القَلبِ، لأُناديَ للمَسبيِّينَ بالعِتقِ، وللمأسورينَ بالإطلاقِ… إن الرب يسوع لم يكنيعظ أو يعلم فقط ولكنه كان يجول يصنع خيراً ويشفي المتسلط عليهم إبليس، ولقد اهتم بالمريض والجائع والحزين والمتألم واليتيم والأرملة والفقير، وكان يهتم بالإنسان كإنسان، لذلك كانيجلس مع العشارين والخطاة ويأكل معهم ويقدم لهم لمسات الحب.
لقد ذهب بنفسه إلى العشرة البرص وقدم لهم الشفاء، وإرسالية الكنيسة يجب أن تكون على نفس القياس من إرسالية المسيح.
لقد قدم الرب يسوع مثل السامري الصالح (لو10: 25- 37)لكي يوضح أن كل إنسان هو قريبك، فأصنع الخير مع الجميع، وقدم لمسات المحبة لكل الناس.
وقدم لنا مثل الغني ولعازر (لو16: 19- 31) ليعلمنا أن نهتم بالفقراء والمحتاجين.
إن المسيحية هي حياة عملية لذا يقول الرسول يوحنا “وأمّا مَنْ كانَ لهُ مَعيشَةُ العالَمِ، ونَظَرَ أخاهُ مُحتاجًا، وأغلَقَ أحشاءَهُ عنهُ، فكيفَ تثبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فيهِ؟ يا أولادي، لا نُحِبَّ بالكلامِ ولا باللِّسانِ، بل بالعَمَلِ والحَقِّ!”(1يو3: 17، 18).
والمسيحية الحقيقية هي في خدمة الإنسان الجائع والمريض والتائه والضال، لذا يقول الرسول يعقوب:” 27الدِّيانَةُ الطّاهِرَةُ النَّقيَّةُ عِندَ اللهِ الآبِ هي هذِهِ: افتِقادُ اليَتامَى والأرامِلِ في ضيقَتِهِمْ، وحِفظُ الإنسانِ نَفسَهُ بلا دَنَسٍ مِنَ العالَمِ”(يع1: 27).
لقد عاش الرب يسوع المسيح على أرضنا يصنع أعمال الرحمة،وإرسالية المسيحي كإرساليته فلقد أوصانا قائلاً:” فكونوا رُحَماءَ كما أنَّ أباكُمْ أيضًا رحيمٌ”(لو6: 36).
ما أجمل أن يكون الإنسان ممتلئاً رحمة وشفقة تجاه المتألمين والمنكوبين المجربين بالتجارب المختلفة في الحياة.
ثالثاً: السلوك بتواضع (وتسلك متواضعاً مع إلهك)
لست أظن أن هناك درساً حرص الرب يسوع أن يعلمه لأتباعهوتلاميذه مثلما حرص على تعليمهم التواضع، فعلمهم بأقواله وبقدوته فلقد قال لهم (مت11: 29) “اِحمِلوا نيري علَيكُمْ وتعَلَّموا مِنِّي، لأنِّي وديعٌ ومُتَواضِعُ القَلبِ، فتجِدوا راحَةً لنُفوسِكُمْ”.
نحن البشر نميل إلى الافتخار بما وصلنا إليه من غنى وعظمة وسلطة ونجاح في حياتنا، ونادراً ما نتذكر أننا مدينون للمصدر الذي نستقى منه كل هذه البركات، أفليس الله كما يقول الوحي المقدس هو الذي يعطينا القوة لاصطناع الثروة؟!.
علينا أن نتواضع أمام عظمة إلهنا … كم كان الرسول بولسرائعاً وهو يشهد قائلاً:” ولكن بنِعمَةِ اللهِ أنا ما أنا، … ولكن لا أنا، بل نِعمَةُ اللهِ التي مَعي”(1كو15: 10).
ثم عاد يكرر قوله المشهور “مَنِ افتَخَرَ فليَفتَخِرْ بالرَّبِّ”(1كو1: 31). وتتواضع أمام إحسانه الوفير فنردد مع يعقوب ” صَغيرٌ أنا عن جميعِ ألطافِكَ وجميعِ الأمانَةِ التي صَنَعتَ إلَى عَبدِكَ. فإنِّي بعَصايَ عَبَرتُ هذا الأُردُنَّ، والآنَ قد صِرتُ جَيشَينِ”(تك32: 10). ونقول مع داود ” من يدك الجميعَ ومِنْ يَدِكَ أعطَيناكَ”(1أخ29: 14).
ونتواضع أمام غفرانه العظيم فنقول مع ميخا “مَنْ هو إلَهٌ مِثلُكَ غافِرٌ الإثمَ وصافِحٌ عن الذَّنبِ، وتُطرَحُ في أعماقِ البحرِ جميعُ خطاياهُمْ”(ميخا7: 18- 20).
هذا ومن ناحية أخرى علينا أن ندرك أن التواضع الذي يليق بناكأبناء الله لا يمكن أن يكون على حساب الكرامة والمهابة وإلا أضحى المتواضع مهاناً ومحتقراً، فشتان الفرق بين المتواضع والوضيع.
في مرة غسل الرب يسوع أرجل تلاميذه، وبعدها خاطبهم قائلاً:” لأنِّي أعطَيتُكُمْ مِثالاً، حتَّى كما صَنَعتُ أنا بكُمْ تصنَعونَ أنتُمْ أيضًا”(يو13: 15). فالتواضع ليس كلاماً ولا تمثيلاً، إنما التواضع يبدو بوضوح عندما نقوم بمساعدة شخص ساقط لينهض من سقطته، ونغسل أقدامه التي إتسخت حتى يعاود المسير في الطريق الصحيح بأسلوب جديد وبقلب جديد.
والحقيقة أن الله لا يقبل الاستقلال عنه، ويقاوم الغطرسةوالكبرياء فمكتوب ” وتسَربَلوا بالتَّواضُعِ، لأنَّ:”اللهَ يُقاوِمُ المُستَكبِرينَ، وأمّا المُتَواضِعونَ فيُعطيهِمْ نِعمَةً”(1بط5: 5).
والكبرياء هي سبب سقوط آدم وحواء عندما خدعتهما الحيةبحوارها الخادع بأنهما سيكونا مثل الله، فطردا من جنة عدنفمكتوب في (تك3: 1- 5).
والكبرياء هي السبب وراء بلبلة وتفرقة السنة بابل عندما قالوا ” هَلُمَّ نَبنِ لأنفُسِنا مدينةً وبُرجًا رأسُهُ بالسماءِ. ونَصنَعُ لأنفُسِنا اسمًا لِئلا نتبَدَّدَ علَى وجهِ كُلِّ الأرضِ”(تك11: 4).
وهنا كان قرار الله ” هَلُمَّ نَنزِلْ ونُبَلبِلْ هناكَ لسانَهُمْ حتَّى لا يَسمَعَ بَعضُهُمْ لسانَ بَعضٍ”فبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هناكَ علَى وجهِ كُلِّ الأرضِ، فكفّوا عن بُنيانِ المدينةِ”(تك11: 7، 8).
والكبرياء وراء السلوك الحيواني لنبوخذ نصر الذي شعر بالزهو بما حققه، وإذ كان يتمشى على قصر مملكة بابل هتف قائلاً: “وأجابَ المَلِكُ فقالَ: “أليستْ هذِهِ بابِلَ العظيمَةَ التي بَنَيتُها لبَيتِ المُلكِ بقوَّةِ اقتِداري، ولجَلالِ مَجدي؟” والكلِمَةُ بَعدُ بفَمِ المَلِكِ، وقَعَ صوتٌ مِنَ السماءِ قائلاً:”لكَ يقولونَ يا نَبوخَذنَصَّرُ المَلِكُ: إنَّ المُلكَ قد زالَ عنكَ. ويَطرُدونَكَ مِنْ بَينِ الناسِ، وتكونُ سُكناكَ مع حَيَوانِ البَرِّ، ويُطعِمونَكَ العُشبَ كالثِّيرانِ، فتمضي علَيكَ سبعَةُ أزمِنَةٍ حتَّى تعلَمَ أنَّ العَليَّ مُتَسَلِّطٌ في مَملكَةِ الناسِ وأنَّهُ يُعطيها مَنْ يَشاءُ”(دا4: 30- 33).
ولم يتعظ بيلشاصر ابنه بما حدث مع أبيه فكان صوت عدالةالسماء “وأنتَ يابَيلشاصَّرُ ابنَهُ لم تضَعْ قَلبَكَ، مع أنَّكَ عَرَفتَ كُلَّ هذا… بل تعَظَّمتَ علَى رَبِّ السماءِ، فأحضَروا قُدّامَكَ آنيَةَ بَيتِهِ، وأنتَ وعُظَماؤُكَ وزَوْجاتُكَ وسراريكَ شَرِبتُمْ بها الخمرَ، وسبَّحتَ آلِهَةَ الفِضَّةِ والذَّهَبِ والنِّحاسِ والحَديدِ والخَشَبِ والحَجَرِ التي لا تُبصِرُ ولا تسمَعُ ولا تعرِفُ. أمّا اللهُ الذي بيَدِهِ نَسَمَتُكَ، ولهُ كُلُّ طُرُقِكَ فلم تُمَجِّدهُ”(دا 5: 22، 23).
وعندئذ ظهرت على حائط قصر الملك يد القضاء الأعلى تسطر له منطوق الحكم، والذي كان تفسيره أحصَى اللهُ ملكوتَكَ وأنهاهُ…وُزِنتَ بالمَوازينِ فوُجِدتَ ناقِصًا… قُسِمَتْ مَملكَتُكَ وأُعطيَتْ لمادي وفارِسَ”. وما هي إلا ساعات حتى قُتل بيلشاصر بجيش الغزاة.
نعم! مَنْ يتعامل مع أمور الله بإستخفاف، وبلا توقير لوصاياه ينال قصاصه العادل.
والكبرياء كانت السبب وراء موت هيرودس الملك فمكتوب “ففي يومٍ مُعَيَّنٍ لَبِسَ هيرودُسُ الحُلَّةَ المُلوكيَّةَ، وجَلَسَ علَى كُرسيِّ المُلكِ وجَعَلَ يُخاطِبُهُمْ. فصَرَخَ الشَّعبُ:”هذا صوتُ إلَهٍ لا صوتُ إنسانٍ!”. ففي الحالِ ضَرَبَهُ مَلاكُ الرَّبِّ لأنَّهُ لم يُعطِ المَجدَ للهِ، فصارَ يأكُلُهُ الدّودُ وماتَ.
والتواضع يبدو في ردود أفعالنا على تصرفات البعض، في (مرقس10: 35- 37) مكتوب” وتقَدَّمَ إليهِ يعقوبُ ويوحَنا ابنا زَبدي قائلَينِ: “يامُعَلِّمُ، نُريدُ أنْ تفعَلَ لنا كُلَّ ما طَلَبنا”. فقالَ لهُما:”ماذا تُريدانِ أنْ أفعَلَ لكُما؟”. فقالا لهُ:”أعطِنا أنْ نَجلِسَ واحِدٌ عن يَمينِكَ والآخَرُ عن يَسارِكَ في مَجدِكَ”.
وكان رد فعل العشرة تلاميذ ” ولَمّا سمِعَ العشَرَةُ ابتَدأوا يَغتاظونَ مِنْ أجلِ يعقوبَ ويوحَنا”(مر10: 41). وهنا نجد أن الغيظ الذي ملأ التلاميذ أظهر كبرياء قلوبهم، فدعاهم الرب يسوع وصحح أفكار التلميذين كما صحح أفكار باقي التلاميذ العشرة، ورسم أمامهم الطريق إلى العظمة الحقيقية بأن الذييأخذ المكان الأخير كخادم الكل على الأرض سوف يكون له المكان الأعلى في المجد.
والتواضع يظهر في تقديمنا للآخر عن أنفسنا، والكتاب يعلمنا ذلك ففي (1كو10: 24) يقول الرسول بولس ” لا يَطلُبْ أحَدٌ ما هو لنَفسِهِ، بل كُلُّ واحِدٍ ما هو للآخَرِ”. وفي (في2: 4) يقول :” لا تنظُروا كُلُّ واحِدٍ إلَى ما هو لنَفسِهِ، بل كُلُّ واحِدٍ إلَى ما هو لآخَرينَ أيضًا”.
أطلق أحد الأتقياء على نفسه لقب (الثالث) فعندما سئل ومَنْ هو الأول والثاني؟ّ فأجاب قائلاً الأول هو الله، والثاني هو الآخر،والثالث هو أنا. لعل هذا يذكرني بصموئيل وهو يقول للشعب “فأرسَلَ الرَّبُّ يَرُبَّعَلَ وبَدانَ ويَفتاحَ وصَموئيلَ”(1صم12: 11).
ونلاحظ أنه هنا يضع نفسه آخر الكل ويوحنا المعمدان في وقت كانت شعبيته بلا حدود لكنه قال بكل تواضع “أنا أُعَمِّدُكُمْ بماءٍ للتَّوْبَةِ، ولكن الذي يأتي بَعدي هو أقوَى مِنِّي، الذي لستُ أهلاً أنْ أحمِلَ حِذاءَهُ. هو سيُعَمِّدُكُمْ بالرّوحِ القُدُسِ ونارٍ”(مت3: 11). ثم قال:” يَنبَغي أنَّ ذلكَ يَزيدُ وأنِّي أنا أنقُصُ”(يو3: 30). على عكس ذلك المتكبر الذي يريد إطفاء شموع الآخرين لكي تصبح شمعته هو الوحيد المضيئة ويحاول إزاحة كل مَنْ يقف في طريقة في سبيل تحقيق أطماعه.
تصور عدسة الوحي المقدس شخصية ديوتريفس الذي يحب أن يكون الأول وهو على إستعداد أن يفعل أي شيء لتحقيق ذلك فيسطر الرسول يوحنا “ولكن ديوتريفِسَ – الذي يُحِبُّ أنْ يكونَ الأوَّلَ بَينَهُمْ – لا يَقبَلُنا. مِنْ أجلِ ذلكَ، إذا جِئتُ فسأُذَكِّرُهُ بأعمالِهِ التي يَعمَلُها، هاذِرًا علَينا بأقوالٍ خَبيثَةٍ. وإذ هو غَيرُ مُكتَفٍ بهذِهِ، لا يَقبَلُ الإخوَةَ، ويَمنَعُ أيضًا الذينَ يُريدونَ، ويَطرُدُهُمْ مِنَ الكَنيسَةِ”(3يو: 9، 10).
والتواضع يمكن أن نراه في صور متعددة فنراه في اعترافنا بخطايانا كما قال الرسول بولس ” صادِقَةٌ هي الكلِمَةُ ومُستَحِقَّةٌ كُلَّ قُبولٍ أنَّ المَسيحَ يَسوعَ جاءَ إلَى العالَمِ ليُخَلِّصَ الخُطاةَ الذينَ أوَّلُهُمْ أنا”(1تي1: 15).
ونرى التواضع عندما نتراجع عن رأى كنا قد قررناه وأخذناه ثم اكتشفنا مع مرور الأيام أن القرار لم يكن صحيحاً، نقرأ في(أعمال 15: 36- 41) ” ثُمَّ بَعدَ أيّامٍ قالَ بولُسُ لبَرنابا:”لنَرجِعْ ونَفتَقِدْ إخوَتَنا في كُلِّ مدينةٍ نادَينا فيها بكلِمَةِ الرَّبِّ، كيفَ هُم”. فأشارَ بَرنابا أنْ يأخُذا معهُما أيضًا يوحَنا الذي يُدعَى مَرقُسَ، وأمّا بولُسُ فكانَ يَستَحسِنُ أنَّ الذي فارَقَهُما مِنْ بَمفيليَّةَ ولم يَذهَبْ معهُما للعَمَلِ، لا يأخُذانِهِ معهُما. فحَصَلَ بَينَهُما مُشاجَرَةٌ حتَّى فارَقَ أحَدُهُما الآخَرَ. وبَرنابا أخَذَ مَرقُسَ وسافَرَ في البحرِ إلَى قُبرُسَ. وأمّا بولُسُ فاختارَ سيلا وخرجَ مُستَوْدَعًا مِنَ الإخوَةِ إلَى نِعمَةِ اللهِ. فاجتازَ في سوريَّةَ وكيليكيَّةَ يُشَدِّدُ الكَنائسَ”.
لكننا نقرأ في (2تي4: 11) نرى رأى الرسول بولس قد اختلف في مرقس فيكتب قائلاً: ” لوقا وحدَهُ مَعي. خُذْ مَرقُسَ وأحضِرهُ معكَ لأنَّهُ نافِعٌ لي للخِدمَةِ”.
هذه هي انتظارات الله من الإنسان كما أعلنها ونادي بها ميخاالنبي: صناعة الحق، ومحبة الرحمة، والسلوك بتواضع.