تعرّض لويس عوض للهجوم على شخصه وعلى كتاباته فى حياته وبعد وفاته. ولم تـُصبه السهام من الأصوليين الإسلاميين وحدهم ، وإنما أيضًا من بعض اليساريين. وتصاعد الهجوم عليه خاصة بعد نشر كتابه (مقدمة فى فقه اللغة العربية) وكتابه عن جمال الدين الإيرانى الشهير بالأفغانى
فى هذا الكتاب اعتمد فيه على عشرات الوثائق والمراجع الأصلية وشهادات معاصرى الأفغانى ، فأتاح له ذلك طرح العديد من الأسئلة مثل : لماذا أخفى الأفغانى أنه وُلد فى قرية (أسد أباد) بالقرب من مدينة همدان غرب إيران؟ ويؤكد ذلك أنّ لغته الأصلية هى الإيرانية. وأنّ لغتيه المُكتسبتيْن هما العربية والتركية. ولم يثبتْ أنّ لغته الأصلية إحدى لغات أفغانستان . ولماذا أخفى مذهبه الشيعى ليبدو سنيًا فى البلاد السنية ( أفغانستان وتركيا ومصر)؟ ولماذا نسب نفسه إلى أفغانستان عندما ذهب إلى تركيا ومصر والهند؟ ولماذا لقب نفسه بالسيد جمال الدين الرومى (أى التركى) عندما كان فى أفغانستان؟ أما الفترة التى قضاها فى العراق فلقب نفسه بالاستانبولى (مركز الخلافة وعاصمة الإسلام السنى وقتها) فلماذا أخفى جنسيته الأصلية؟ ولماذا طرده الإنجليز من المحفل الماسونى الإنجليزى؟ ولماذا تنقل بين المحافل الماسونية الإنجليزية والفرنسية والإيطالية؟ وكيف حصل على عضوية كل منها ؟خاصة أنّ هذه المحافل لم تكن إلاّ جمعيات سرية أنشأتها الدول الأوروبية فى تسابقها الاستعمارى لتجنيد المثقفين المصريين؟ ولماذا كان مؤيدًا لرياض باشا رغم عدائه للحركات الدستورية والديموقراطية ؟ وفى المقابل لماذا كان رياض باشا أقوى سند داخل السلطة للأفغانى طوال إقامته فى مصر، وحتى بعد نفيه. فما هى المصالح التى جمعتْ بينهما ؟ ولماذا كان الأفغانى يُعادى نوبار باشا ويعمل على طرده من الوزارة ، هل كان ذلك لمصلحة مصر أم لمصلحة الباب العالى؟ لماذا عمل الأفغانى على تحقيق حلم الإنجليز بخلع الخديو إسماعيل؟ وبالمقابل لماذا بذل كل جهد ممكن لتنصيب توفيق الذى لا يختلف مؤرخ واحد حول حقيقة أنه صنيعة الإنجليز؟ وكيف استطاع إخفاء حقيقة دعوته للجامعة الإسلامية وتواصله مع تركيا أثناء إقامته فى مصر واندماجه فى الحركة الوطنية التى كان محورها (مصر للمصريين) لا للأوروبيين ولا للعثمانيين؟ وكيف استطاع الجمع وهو فى مصر بين حملته العلنية ضد الإنجليز ونظريته السرية فى التعاون معهم فى الهند؟ ولماذا سمح الإنجليز له أنْ يُقيم فى الهند بعد أنْ طردوه من مصر، وكان فى إمكانهم أنْ يُشحنوه إلى بلاده إيران؟ هل ليضعوه تحت المراقبة ؟ أم لأنه موصى عليه من الباب العالى صديق الإنجليز فى تلك الفترة؟
لماذا كان تفسير الأفغانى للثورة العرابية تفسيرًا زريًا ؟ هل لأنّ الثورة العرابية لم ترفع شعار التبعية العثمانية ورفعت شعار(مصر للمصريين)؟ رغم أنّ بعض أجنحتها الساذجة كانتْ تؤمل خيرًا فى مؤازرة تركيا لها ، كما أنّ منشور العصيان الذى أصدره السلطان عبدالحميد وأهدر فيه دم عرابى والعرابيين فى أخطر مراحل المقاومة المسلحة للغزو البريطانى ، يصعب معه الحديث عن تأييد الخليفة لرعاياه المسلمين . لقد كان موقف السلطان عبدالحميد فى هذه الأزمة مع ممثله الشرعى الخديو توفيق وضد الثائرين عليه. ومع الجيوش البريطانية التى سفحتْ دم رعاياه من المصريين . وكان كل أمل (الرجل المريض) أنْ تقمع له إنجلترا الثورة العرابية.
ولماذا كان تفسير الأفغانى للغزو البريطانى على مصر تفسيرًا زريًا كذلك ؟ فإنجلترا احتلتْ مصر لتؤمّن طريق مواصلاتها الامبراطورية إلى الهند ، وهذا حق ولكنها فى هذه المرحلة بالذات على صعيد المسألة الهندية ، كانت تخشى هندوس الهند الذين كانوا طليعة الكفاح الوطنى أكثر مما كانت تخشى مسلميها الذين كانت إنجلترا تـُجرّب معهم تجربتها فيما بعد مع المصريين المسيحيين ، أى محاولة التودد إليهم لتسلخهم من تيار الحركة الوطنية.
هذه الأسئلة (وغيرها كثير) استنبطها لويس عوض من عشرات المراجع الأصلية ومن بينها أصدقاء الأفغانى ، ومع ذلك شنـّتْ الثقافة السائدة ضده حملة عدائية بحجة أنه إتهم الأفغانى بالإلحاد ، بينما لويس عوض نقل للقارىء ما حدث عندما ألقى الأفغانى محاضرة فى جامعة دار الفنون بتركيا. بعدها أشاع شيخ الإسلام حسن فهمى أفندى أنّ الأفغانى زعم أنّ النبوة صنعة. وأوعز للوعاظ فى المساجد أنْ يذكروا ذلك ، وحرّضهم ضد الأفغانى ، الذى اضطرللدفاع عن نفسه وإثبات براءته. ورأى أنّ ذلك لا يكون إلاّ بمحاكمة شيخ الإسلام (هذا ماكتبه لويس عوض نقلا عن رشيد رضا – كما وجدتُ فى كتاب (تاريخ الإصلاح فى الأزهر- تأليف الأزهرى المُستنير عبد المتعال الصعيدى ذكر لهذه الواقعة) وفى كتاب خليل فوزى أنّ لجنة شـُكلتْ للرد على زندقة الأفغانى . وأنّ كتابه كان ثمرة هذه اللجنة الدينية تنفيذًا لأوامر الخليفة لنصرة الدين وتسفيه الفلاسفة الحقراء . والنتيجة التى وصل إليها خليل فوزى أنّ الأفغانى مرتد وإذا لم يُعلن توبته حق قتله. وذكر إبراهيم الهلباوى أنه تعلم مما سمعه من أساتذته فى الأزهر أنْ يُبغض الأفغانى بوصفه ملحدًا . وكتب سليم بك العنحورى (وهو من مريدى الأفغانى) أنّ الأفغانى عندما كان فى الهند برز فى علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد . وكتب عبد الله النديم أنّ الأفغانى مزج بالاعتقاد ما وجّه إليه الانتقاد. ثم عدّل بهم عن أنديته الأدبية إلى المحافل الماسونية. ثم اشتهر بعض تلامذته بفساد العقيدة ومعارضة الدين الشديدة. وهكذا نجد أنّ صفتة الإلحاد أطلقها معاصرو الأفغانى عليه ومنهم بعض مريديه. ولم يكن هدف لويس عوض إلصاق هذه الصفة به ، فهو أرفع من استخدام لغة الأصوليين ، وإنما كان الهدف وضع السياق التاريخى لمجمل الظروف التى تخلقتْ فيها هذه الصفة. ثم مناقشة هذا السياق : هل كان الأفغانى ملحدًا فعلا ؟ وكيف يكون ملحدًا إذا كانت كتاباته ، خصوصًا فى كتيبه (الرد على الدهريين) ومرحلة العروة الوثقى التى روّج فيها لمقولة (الرابطة الدينية) بهدف نسف الانتماء الوطنى ، وكذلك مجمل مواقفه تـُشير إلى نزعة أصولية ، جاهر فيها بالخلافة العثمانية والدفاع عن تطبيق الشريعة الإسلامية ، فلماذا أتهم بالإلحاد ؟ وهل كان إلحاده على أسس فلسفية اقتنع بها ودافع عنها بشكل مبدئى ؟ أم أنّ هناك خطأ وقع فيه من وصفوه بها ، وأنّ سلوك الأفغانى نفسه ساعدهم على هذا الاعتقاد مثل انضمامه إلى الجمعيات الماسونية ، وهى حقيقة ذكرها د. عبدالوهاب المسيرى فى كتابه (الجمعيات السرية فى العالم) حيث استعرض تاريخ تلك الجمعيات بغية توظيفها فى خدمة الدول الاستعمارية. وأنّ الأعضاء كانوا يتمتعون ببعض المزايا ، وكان من بين هؤلاء الأفغانى والشيخ محمد عبده والأمير عبد القادر الجزائرى .