العنف سلوك عدوانيّ يتولَّد داخل النفس كنتيجة للشعور بالعداوة . وقد يتَّجه هذا الإحساس القاتل وجهات مختلفة . فهو قد يُوجَّه ضد الطبيعة ، فيقوم أحد الأفراد بتحطيم الأشجار ، أو اقتلاع الزرع ، أو قطع الزهور ، أو تخريب المنشآت ، أو تشويه الأعمال الفنيَّة. وقد يُوجَّه العنف نحو الأفراد ، فيلحق بهم الأذى أو القتل .
وقد يتَّجه العنف نحو جماعة معيَّنة ، أو قد يتَّجه نحو المجتمع الإنساني بجملته ، فيفسد السلام والطمأنينة والحُب والرضا.
لماذا العنف ؟ للعنف في حياة المجتمع أسباب كثيرة :
أولها المؤثِّرات البيئية : ففي بعض المجتمعات ، يكون العنف جزءاً مِن البيئة ، فالناس الذين يعيشون حياة الصراع في البحر مثلاً ، أو صراع الطبيعة في الغابات ، أو مواجهة أهوال الصحاري والجبال . هؤلاء الناس يتأثَّرون بقسوة المعيشة ، ويتَّجهون بصفة عامة إلى التعاملات العنيفة التي تفرضها البيئة . كذلكالمؤثِّرات الحضاريَّة : فهناك خشونة طبيعية تفرضها روح البداوة والتخلُّف الحضاري ، فهي تجعل المبالغة في العنف جزءاً ظاهراً مِن سلوكيات التراجع الحضاري . ولعلَّ جرائم الثأر والتنكيل بالعدو والتمثيل بجثث الموتى ، هي بعض مظاهر العنف في الأوساط المتخلفة حضاريًّا . فضلاً عن مركَّبات الإحباط والفشل، فكثيراً ما يكون العنف رَد فعل لمشاعر الإحباط والفشل ، الذي يتولَّد عنه الإحساس بالحقد ، والرغبة في تدمير الناجحين . وكثيراً ما نلحظ مَثلاً أنَّ رَجل أعمال فاشل يتَّجه إلى الانضمام إلى إحدى المؤسسات الإرهابية أو التخريبية ، ويتحمَّس لها ويتبنَّى أفكارها ، فهي تنفِّس عن مشاعر العنف المكبوتة في داخله . كذلكضعف الثقة بالنفس ، وقصور وسائل التعبير الأرقى :فلقد لوحظ أنَّ أغلب المُتَّجهين للعنف هُم مِن تلك الطبقات التي لا تملك استخدام وسيلة أرقى مِثل الحوار أو الإقناع . وهُم عادة لا يملكون الثقة بالنفس ، ولا يجرؤن على التعاملات المهذَّبة . كما أنَّ عدم الإحساس بالأمان وتولِّد روح العداوة فعندما لا تكون صورة المستقبل واضحة للعيان ، ينتاب الإنسان إحساساً غامضاً يشوبه القلق ، وقد يدفعه لممارسة العنف . ومثال لذلك اتجاه أعداد كبيرة مِن الشباب إلى العدوانيِّة ، نتيجة لغموض المستقبل أمامهم في ضوء الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية التي يعيشونها .
الرغبة في السطوة ، وإدخال الرعب في قلوب الآخرين : وهو ما يمارسه ” الفتوات والعصبجية ” ، فهم يمارسون العنف لإفزاع المجتمع المحيط ، لضمان فرض السيادة والسيطرة ، لذلك يقتحمون السرادقات ويحطِّمون الأضواء ، ويكسرون واجهة المحلاَّت… إلخ ، فهم يمارسون العنف كوسيلة كسب وابتزاز . وأخيراًالخصام مع النفس ، والعداء الداخلي أمَّا أهم أسباب العنف هو الخصام مع الذات ، الاحتياج للسلام الداخلي المفقود . فالناس يحسُّون بالتمزُّق الداخلي ، وتسكنهم روح الخصام والشجار التي تجعلهم مستعدِّين دائماً للقتال لأتفه الأسباب .
العنف ضد الذات :
بالرغم مِن أنَّ العنف النابع مِن الشعور بالعداء ، يتشكَّل عادة داخل الإنسان ثمَّ يتَّجه نحو المجتمع المحيط ، إلاّ أنه أحياناً يتَّجه نحو الذات ، ويعمل على تدميرها . والانتحار هو أحد صُور العنف المُوجَّه ضد الذات . كثير مِن الناس يحطّمون أنفسهم ، ويحطِّمون مستقبلهم ، ويحطِّمون بيوتهم ، ويتَّخذون خطوات كثيرة في طريق إيذاء الذات.
والانتحار هو أقصَى مراحل العنف في إيذاء النفس ، ولكنها ليست أكثرها شيوعاً في مجتمعاتنا العربية . أما الشائع حقًّا فهو درجات أقل عُنفاً مِثل التدخين وتعاطي المخدَّرات والإدمان على الكيف ، وسهر الليالي … إلخ ، وجميعها تؤدِّي في النهاية إلى تحطيم الصحّة البدنيّة والنفسيَّة . وكثيراً ما تتخذ صورة الإصرار العنيف على إيذاء الذات .
كيف نوقف العنف ؟
هناك كثير مِن الحلول للحدِّ مِن العنف ، منها ” الردع ” ومقابلة العنف بالعنف لمواجهة أعمال ” البلطجة ” . والردع هنا عمل منظَّم يجب أنْ تقوم به الجهات الأمنية المتخصِّصة ، وليس الأفراد . وهناك وسيلة أخرى لمقاومة العنف هي مزيد مِن التربية والتعليم والتوجيه والإرشاد لمواجهة المؤثرات البالية للبيئات المختلفة التي زرعت العنف في حياة أبنائها . الإحساس بالأمان وتمنح الأمل في الاستقرار ، فتستقطب بعض أسباب العدوانية في قلوب الشباب . غير أنَّ أفضل ما نحتاج إليه لمعالجة العنف هو المصالحة الداخلية أي مصالحة الإنسان مع ذاته ، ومصالحة الإنسان مع الله ، حتى يمتلئ القلب بالسلام والطمأنينة والهـدوء ، ويختفي التوتر والقلق والعنف .
المصالحة : منذ عرفَ الإنسان الخطيئة والعصيان وهو يعيش في حالة خصام مع ذاته . فالإنسان مخلوق روحيّ ، يشتاق بروحه أنْ يعيش في سلام مع الله ، ويريد أنْ يحيا حياة الصلاح والتقوى . لكنه بطبيعتهالجسدية يرغب أيضاً في إشباع شهواته ورغباتهالمادية . ويحتدم الصراع داخل النفس الإنسانية بين ما تريده وما تفعله .
ويضيق الإنسان بعجزه التام عن تحقيق الحياة الروحية، أو ممارسة السلوكيات الحيَّة . فهو يريد الحياة النقيَّة الطاهرة ، لكنه يتردَّى في أفكار شهوانيَّة ساقطة ! وهو يريد مَثلاً أنْ يمنح ويجود ويعطي ، لكن أنانيته تجعله يقبض يده عن العطاء ! وهو يريد أنْيسامح ويغفر لمَن يسيء إليه ، لكنه لا يستطيع ، لأنَّكبرياءَه وتعاظمه يدفعانـه للخصام والمشاحنـة ! وهكذا يواجه الإنسان في كلِّ يوم ضعفه وقصوره ، وينتهي به الأمر إلى خصام النفس وابتعاد عن الله .
ثمَّ يستسلم الإنسان لنوازعه الطبيعيَّة ، ويتغذَّى على الأنانيَّة والغيرة والتحزُّب والحقد والحسد … إلخ . ويفتقد الإنسان تماماً سلام القلب وطمأنينة النفس . وعندما يكون الإنسان في خصام مع ذاته ، فإنَّه يكون سريع الغضب ، سريع الشكوى ، سريع الخصام مع الآخرين ، عنيفاً في مواجهة الناس ، عنيفاً في ردود فعله للحوادث ، يصرخ وينفعل بأكثر كثيراً ممَّا يستحقُّه الموقف ، يكيل الاتهامات للآخرين ويتوعَّدهم … إلخ . إنها حالة الخصام مع النفس ، التي تنعكس على سلوكيَّات صاحبها ! فماذا يحتاج الإنسان ليتصالح مع ذاته ؟ إنه يحتاج إلى علاج الضعف الأساسي الذي أدَّى إلى الصراع الداخلي .
– يحتاج الإنسان أنْ يحصل على لمسة إلهيَّة تشفيه مِن سُلطان الجسد والشهوة ويحصل على مغفرة إلهيَّة تمحو آثار الخطيئة. كما أنه يصبو على أنْ يحصل على سلام إلهي ، يغمر قلبه بالرضا ، فيُوقف توجُّهاته إلى العنف .
ويحتاج الإنسان في نهاية الأمر أنْ يحصل على مصالحة إلهيَّة تمنحه القيمة والرضا والحُب ، فيتصالح مع ذاته ومع الناس . إنَّ الإنسان كمخلوق روحي لـه روح تبحـث عن الله ، فإذا لم يجد الطريق الصحيح ، فإنه يتحوَّل إلى بحـرٍ صاخب لا يهدأ ، عنيف لا يستقـر ، قاسٍ لا يرحم ، ناقم لا يرضَى .
إذا أردنا أنْ نقضي على روح العداوة والعنف ، فلنبحث عن طريق الخلاص لمسة مِن روح الله التي تشفي وتُطهِّر وتغفر وتقوِّي وتملأ الحياة بالسلام والرضا .