تطالعنا الاخبار المرئية والمقروءة بأخبار عن قتل سبعة من المصريين المسيحين بليبيا على هويتهم الدينية في منطقة متشددة دينياً ، واعقبها حوادث اجرى يندى لها جبين الانسانية واهتزت لها مشاعر المصريين جميعاً ،
الامر الذى يجعل هذا السؤال يقفزالى الأذهان هل هناك تخطيط لإبادة المسيحيين المصريين فى ليبيا بطريقة منظمة ؟
وقبل ان تجيب الايام والاحداث عن هذا السؤال المرير دعونا نعود الى الماضى لنكتشف حقيقة التواصل الجغرافي الطبيعي بين مصر وليبيا والذى ارتبط معه بالضرورة نوع من التواصل الحضاري والثقافي اتضحت معالمه عبر العصور المختلفة بصورة جلية .
ومن هنا يقدم الدكتور لؤى محمود سعيد مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية دراسته التى تقع تحت عنوان ” الأصول المصرية الليبية للأرثوذوكسية.. وأثرها على العالم المسيحي ” متناولا بالتفصيل العلاقة الحضارية الدينية الوثيقة بين مصر وليبيا خلال العصر المسيحي الأول، وأثرها على تبلور العقيدة المسيحية بصورتها التي استمرت إلى يومنا هذا ، وذلك من خلال مرقس “الليبى”.. رسول المسيحية المصرية الذى ولد في ليبيا ، ورغم أن مولده وتنشئته وثقافته الأولى كانت ليبية، إلا أن أم مرقس وأباه على ما يبدو كانا غير ليبيين..
فالأم ” مريم” (أع 12: 12) ربما ولدت بقبرص أو بصعيد مصر، أما الأب ” أرسطوبولس” فربما كان يونانيّاً من مدينة الأشمونين بالمنيا في صعيد مصر ، والراجح أنهما كانا ميسورين الحال ، وخاصة أمه التي أحسنت تثقيفه في ليبيا وعلمته اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية التي أتقنها جميعاً وبرع فيها ، لكن هذه الأسرة تعرضت كغيرها من أسر مدينة سيرين (قورينة) لهجمات عنيفة لنهب أملاكها في أواخر عهد أغسطس قيصر(30 ق.م ـ 14 م)، فاضطرت للهجرة للأراضي المقدسة حاملة معها ثروتها.
أول كنيسة مسيحية
ويوضح الدكتور لؤى ان ” مرقس” بالرغم انه لم يكن من تلاميذ المسيح الإثنى عشر، إلا أنه يعتقد أنه قد رأي المسيح وهو في سن صغيرة.. فيذكر الكتاب المقدس: “إن الرسل كانوا يصلون في بيت مريم أم يوحنا المدعو مرقس ، لهذا أصبح بيته أول كنيسة مسيحية، وفيه أكل التلاميذ الفصح، واختبأوا بعد موت السيدالمسيح، وفي علِيته حل عليهم الروح القدس، ولكن الأهم هو ما أجمع عليه مؤرخو الأقباط -وبعض مؤرخي المسلمين الذين نقلوا عنهم- على أن مرقس كان من السبعين رسولاً الذين ذكرهم لوقا الإنجيلي (10: 1ـ 12)، والذين قاموا بالتبشير بالمسيحية فيأنحاء العالم القديم بعد صلب السيد المسيح .
أولى محطات القديس مرقس
ويشير الدكتور لؤى الى ان ليبيا كانت هي أولى محطات القديسمرقس، والتي اختصها ببداية أعمال كرازته في أفريقيا. وهذا ليس لمجرد أنها تمثل موطنه الأول ومسقط رأسه، لكن التفسير الأهم والأقرب للمنطق هو ما ذكره الأب روفير الفرنسيسكاني عن المسيحية في منطقة بنتابوليس (المدن الغربية الخمس) بليبيا.. حيث اعتبر “أن سيرينيكا قد جذبت المبشرين المسيحيين الأوائل لأنها كانت امتداداً طبيعياً لفلسطين عبر دلتا النيل.. ولهذا فإن مرقس هو مؤسس الكنيسة الليبية بحق”. وهذا الرأي يؤكد أن مفهوم التواصل الحضاري الثقافي ما بين أرجاء هذه المناطق الشاسعة كان قائماً وفاعلاً في أذهان هؤلاء المبشرين وطبقة الصفوة عموماً.. فعمدوا إلى استثماره لصالح العقيدة الوليدة، فنشروا أفكار الدين الجديد بسهولة ويسر.
ثقل حضاري وثقافي عالمي
بعد زيارة مرقس الأولى إلى بنتابوليس بليبيا، توجه منها بحراً إلى الإسكندرية حيث قضى بها نحو عامين، ثم تكررت زيارته لها إلى أن استشهد على أرضها في نهاية المطاف عام 68 م ، ويتسائل الدكتور لؤى لماذا اختار مارمرقس الإسكندرية بالذات ليطيل البقاء فيها، وليعتبرها من أهم محطات كرازته وتبشيره بالمسيحية؟
والاجابة بسيطة ووتتضح فى إحدى برديات البهنسا بالمنيا فيرسالة بعث بها ابن إلى أبيه “… إذا لم تصحبنى معك إلى الإسكندرية فلن أكتب لك، ولن أكلمك أبداً.. “.. فقد كانت الإسكندرية هي العاصمة الإدارية لمصر، والمركز التجاري العالمي والعاصمة الثقافية التي تستقبل معظم أبناء الطبقات الارستقراطية لتلقي تعليمهم ، فكانت مدينة الاسكندرية وقت مجيء مرقس الرسول اليها ذات ثقل حضاري وثقافي عالمي حيث تضم خليطاً معقداً من العقائد والفلسفات اليونانية والعلوم والثقافات المختلفة.. فكان مجرد التبشير فيها بعقيدة جديدة يمثل تحدياً في حد ذاته، ناهيك عن النجاح في الترويج للعقيدة الجديدة واكتساب أرضية واسعة لها..
كاروز الديار المصرية
ويذكر الدكتور لؤى ان المشكلة التي تواجهنا بهذا الصدد تتمثل فى تحديد فترة مجيء القديس مرقس لمصر والتى يقع عليها خلاف كبير بين المؤرخين لكن الأهم هو ما أورده التقليد المسيحي بشأن أعمال هذا القديس في الإسكندرية هي: قيامه بسيامة الإسكافي إنيانوس (حنانيا) أسقفاً باعتباره أول المؤمنين بكرازته ـ مع ملاحظة أن القديس مرقس نفسه هو أول بطاركة الأرثوذوكس ومؤسس الكرسى المرقسى “وكاروز” الديار المصرية، والذي خلفهإنيانوس كثاني البطاركة بعد واقعة استشهاد مرقس ، كما انه أسس مدرسة لاهوتية إكليريكية لمواجهة مدرسة الإسكندرية الوثنية الشهيرة التي نادت بالأفلاطونية الحديث ، هذا بالاضافة الى انه أسس كنيسة الإسكندرية التي أصبحت مقراً للبطرك.. فحمل لقب “بابا الإسكندرية” حتى اليوم .
آثار مرقس في ليبيا
ورغم أن تواجد مرقس الرسول في مصر تميز بشيء من الضبابية الغائمة فيما يتعلق بالمصادر التاريخية، إلا أن آثاره في ليبيا قد تبدو أكثر وضوحاً إلى حد ما فيكشف الدكتور لؤى عن عدة اكتشافات أثرية في منطقة الجبل الأخضر (المقر التبشيري للقديس مرقس).. رجحت إلى حد كبير فرضية أن هذه الأماكن بالذات كانت تمثل مقار التجمعات المسيحية الرئيسية في ليبيا منذ وقت مبكر وخاصة في عصر القديس مرقس ، ومن أهم هذه القرائن الأثرية :
1.في عام 1987 اكتشفت مقار محفورة في واجهة صخرية فيمنطقة تسمى “وادي مرقس”، وتضم شواهد أثرية مثل صهاريج رومانية لحفظ المياه وبقايا رأس أسد (وهو الحيوان الذي أصبح رمزاً للقديس مرقس).. مما اعتبره الباحث الليبى “داود حلاق “صرح مرقس الإنجيلي “، والذي به آثار تدمير واضحة تشير إلىأن الرومان بعد قتله قد دمروا الصرح لمحو اسم مرقس.
2.رسومات صهريج خيدرا الصخرية، والتي تمثل مجموعاتتحمل صلباناً.. كأنها عملية صلب جماعي.
3.وجود ما يسمى بـ”وادي الإنجيل” في ليبيا وهو مجاور لـ “وادي مرقس”.. . لهذا يفترض “حلاق” أن هذا هو المكان الذي دوّنفيه مرقس إنجيله
المدن الخمس الليبية
ويستخلص الدكتور لؤى من كل ما سبق أن شخصية وثقافة القديس الإنجيلي مرقس تمثل تجسيداً لذلك التواصل الحضاري العروبي.. فقد تعددت روافد ثقافته وإيمانه ما بين ليبيا وفلسطين، ثم ما لبث أن بلور خبرته وعقيدته في إنجيل وتعاليم دينية بثها بالذات في كل من مصر وليبيا، فصار البشير وكاروز مصر وليبيا معاً. بل لقد اعترف العالم المسيحي كله بهذا القديس العروبي وبإنجيله باعتباره واحداً من الأناجيل القانونية الأربعة التي تمثل العهد الجديد والكتاب المقدس والذي أيضاً بسببه قد أقرت رسمياً تبعية المدن الخمس الليبية (بنتابوليس) لكنيسة الإسكندرية حسب القانون السادس من قوانين مجمع نيقية المسكوني الذي عقد عام 325 م والذي يذكر: “فلتحفظ العوائد القديمة التي في مصر وليبيا والخمس مدن، بأن تكون سلطة أسقف الإسكندرية على هذه جميعها”.