“نحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا” (سفر أخبار الأيام الثاني 20:12).
هكذا نقف دائما بين يدى الله نتساءل ونتحير ونتفكرفى أمورنا الخاصة و ظروف الأحداث المحيطة والأخطار التى قد غدت تفاجئنا وتحدق بنا من كل صوب فنصرخ ماذا عسانا يارب أن نفعل ؟
ان ما نعيشه هذه الأوقات من أزمات لابد أن يحيلنا الى اختبارنا مع الآب السماوى على مدار حياتنا ، ولنأخذ مثالا من الماضى القريب جدا ..حيث عام 2013 الملئ بالآهات والتنهدات والمعجزات من اليد الحانية لأبى الأنوار …
(نوفمبر 2012- نوفمبر 2013) القارئ لأحداث هذا العام يقف علي حقيقة مهمة مؤكدة أن هذين التاريخين وثيقا الصلة بحكاية الشعب المصري, فالتاريخ الأول يتعلق بإجراء القرعة الهيكلية لاختيار وتجليس بابا الأقباط (البابا تواضروس الثاني) علي كرسي مارمرقس الرسول, والثاني أي بعد مرور عام شهدت فيه مصر ألوانا من القهر والظلم وتجرعت مرارة القتل والسحل والتشريد..
علي أن معاناة الشعب المصري المسيحي جاءت أشد وأقسي بعد ما شهدناه من ترويع وتهجير للأقباط ونهب ممتلكاتهم وحرق الكنائس علي يد نظام حاكم تستر كذبا وبهتانا خلف الدين ليقتل ويكبل ويحرق كيفما شاء حتي أن التاريخ يكتب صفحات جديدة في عصر الشهداء..
مصر .. الكنيسة .. في قلب الله
وقد يتساءل البعض: لماذا يعد تاريخ اختيار وتجليس البطريرك 118 (نوفمبر 2012) وثيق الصلة بالشعب المصري؟ ولم لا وقد عهدنا قداسة البابا شنودة بابا كل المصريين, فهو الذي قال: لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين بعد تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة.. وهو الذي رفض الاستقواء بالخارج في القضية القبطية (علي ما قاساه الأقباط في عصره), وهو أيضا الذي قال من القلب: مصر ليست وطن نعيش فيه بل وطنا يعيش فينا, وقال أيضا: إنني علي استعداد لأن أفدي المصريين بدمي, وعندما مضي عنا بالجسد.. حزن الشعب المصري كله علي هذا الأب العظيم, وتجلي هذا في صلاة الجناز عليه, وهناك جهات عديدة أعلنت الحداد..
وبسفر البابا شنودة إلي أورشليم السماوية, تولد فراغ كبير خاصة أن هذا الرحيل تزامن مع فترة فاصلة في تاريخ مصر واعتلت جماعة الإخوان المسلمين سدة الحكم وأحكمت الوثاق علي كل مفاصل الدولة..
نظر الشعب فإذ به ينصهر بين شقي الرحي: الاضطراب والقلاقل التي تشهدها البلاد وفقدان الحضن الأبوي والروحي, لقد عشنا أياما بل سنين (وكاتبة هذه السطور شاهدة علي ذلك) نتشح بالسواد حزنا علي رحيل الأب العظيم وخوفا مما يحمله لنا الغد المجهول..
صرخنا إلي الله ليل نهار.. أقمنا القداسات اليومية متسلحين بالصوم المقدس الذي نادت به الكنيسة ثلاث مرات عند المراحل المختلفة من ترشيح مرورا بإجراء القرعة الهيكلية وانتهاء بانتخاب البطريرك 118 ثم تجليسه في الثامن عشر من نوفمبر 2012.. ولن أنسي أبد الدهر يوم الأحد الرابع من نوفمبر 2012, وكنت قد دعيت ومجموعة من زملائي أعضاء نقابة الصحفيين لحضور قداس القرعة الهيكلية ولكن حالت الظروف دون الذهاب فمكثت في البيت أتابع الصلوات.. لن أنسي ما قاله نيافة الأنبا باخوميوس القائم قام البطريركي في قداس القرعة علي مرأي ومسمع من العالم كل واحد يصلي ويطلب من الله أن يختار لنا الراعي الصالح حسب قلبه وهنا أعترف لكم أنني بكيت أنا وزوجي عندما سمعنا هذه الكلمات في منزلنا.. أغمضنا عيوننا وطلبنا إلي الله أن يختار من يشاء.. وجاء الاختيار: رفع القائمقام ورقة القرعة الهيكلية تحمل اسم نيافة الأنبا تواضروس أسقف البحيرة.. ها قد استجاب الرب وتحققت معجزة السماء.. معجزة الصلاة.
علي أن معجزة الصلاة لم تتوقف.. وعطايا الله لن تنضب مدي الدهر, ذلك أنه ما لبث الشعب أن يهدأ ويستريح في ظل الراعي الصالح وممثله علي الأرض حتي قامت الدنيا ولم تقعد بعد الإعلان الدستوري لرئيس الجمهورية في ذلك الوقت محمد مرسي في نوفمبر 2012, وما خلفه من قرارات ونتائج أسفرت عن ضحايا ومصابين, بالإضافة إلي الحرق والتخريب, ولعل أحداث قصر الاتحادية الدامية ومن قبلها حادث قطار أسيوط المروع الذي راح ضحيته أطفال المعهد الأزهري… كان هذا وذاك خير شاهد علي ما عاشته مصر آنذاك..
ها هو الشعب المصري (مسلمين ومسيحيين) يصرخ إلي الله مجددا.. والله يري ويسمع كل شئ.. لكنه ينتظر ويتأني.. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء (رو11:33), ذبح أربعة أشخاص من المصريين الشيعة والله يتأني ويرفق.. يموت شعب الخصوص المسيحي حرقا وذبحا.. والله يتأني ويرفق.. يعتدي أعداء الدين والوطن علي الكاتدرائية المرقسية بالعباسية بالقاهرة (للمرة الأولي في التاريخ) ومن قبلها الاعتداء علي مؤسسة الأزهر الشريف.. والله يتأني ويرفق.. إنه يعوزنا الوقت لكي نسرد آلام مصر خلال عام وكأنه ألف عام..
آه يارب.. أنت الذي قلت: مبارك شعبي مصر (إشعياء 19:25).. آه يارب أنت الذي قلت عن مصر: ادخلوها آمنين, وقال عنها التاريخ: مصر مقبرة الغزاة, أما عن مخلص يحب هذا البلد العظيم حبا خالصا صادقا متنزها عن أي غرض أو شهوة..؟ أين هو يارب؟ ماذا تحمل لنا الأقدار والسنون؟ هكذا صرخ الشعب المصري إلي السماء.. والله يتأني ويرفق.. رأينا وسمعنا تنهدات المصريين عايزين معجزة.. قالها المفكر والأستاذ محمد حسنين هيكل إن خلاص المصريين من حكم الإخوان يحتاج إلي معجزة إلهية (كان التخطيط أن يستمر الحكم 500عام!!).
عايزين معجزة كلمة تبدو في عصرنا الحديث.. عصر العولمة والسماوات المفتوحة تبدو ساذجة فيرد آخرون: زمن المعجزات ولي وانقضي.. وهذه الكلمة المعجزة علي تكرارها في الشارع المصري.. مع سائقي التاكسي.. في مترو الأنفاق.. في محال الطعام.. في المساجد.. في الكنائس.. كانت تبدو بعيدة عنا في عنان السماء.. قريبة منا.. لأن الرب قريب.
السماء.. والخروج من النفق المظلم
الأحد: الثلاثون من يونية 2013 موعد الشعب المصري (مسلمين ومسيحيين وشيعة و علمانيين) مع الخلاص.. ها هي الدائرة تتسع, فإذا كانت الصرخات إلي الله من قبل تشق صدور الأقباط, فإنها هنا صرخة شعب بأكمله.. امتلأت الميادين والشوارع, ونزل الشعب عن بكرة أبيه يقول لقوي الظلم والظلام.. ارحلوا.. وقد كان لي شرف المشاركة يوم الاثنين أول يوليو بميدان التحرير.. مفجر الثورة وحارسها.. هاأنذا أقف بين إخوتي المصريين جنبا إلي جنب المنتقبات والمحجبات بل وذوي اللحي.. سيدات وشباب وأطفال من هنا وهناك.. الجميع يرفع علم مصر.. تعلونا طائرات الجيش.. نلوح لها. وتبادلنا التحيات بالأعلام.. يصرخ الشعب بكل جوارحه.. يارب.. يارب.. عاش الأزهر.. عاشت الكنيسة.. صعدت الآهات والصلوات وشقت الفضاء الكوني الفسيح.. يارب ما أجملها كلمة حب .. وجدتني انتفض ويستحيل كياني إلي ساحة حرب.. واحة حب.. ياليت العالم يشهد معي..
تعاظمت صرخات الشعب المصري في منتصف ليلة الأربعاء الدامي بعد أن أطلق الرئيس المعزول مرسي العياط رسالة الدم في خطابه المعادي والمحرض في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء 2يوليو, وجاء اليوم المشهود: الأربعاء 3يوليو 2013 حانت ساعة الخلاص ونفذ الله ضابط الكل وعده بالفرح والاستجابة لصلوات المصريين وهنا تحضرني قصة الخروج العظيم لشعب بني إسرائيل من أرض مصر (سفر الخروج 14:26-31) والتحرر من عبودية فرعون بعد طريق من الآلام استمر قرابة (400عام) (سفر التكوين 15:13) ومع إشراقة الخميس الرابع من يوليو تنفس الشعب المصري الصعداء, ولأول مرة منذ عام بأكمله (أو قل ألف عام) يستيقظ المصريون علي الأمل والانفراجة الكبري بعد رحيل نظام الإخوان الاستبدادي..
الشقيقة سوريا.. ومعجزة الصلاة
أغسطس 2013 في هذا التاريخ أعلن العالم حربا شعواء علي البلد الشقيق سوريا, وتمثلت قوي الاعتداء في الولايات المتحدة وتركيا وبعض دول الاتحاد الأوربي وبعض الدول العربية بسبب انتشار السلاح الكيميائي وما سببه من دمار, وبعيدا عن لعبة السياسة القذرة.. وما إذا كان النظام السوري مسئولا عن حقيقة ما يحدث علي الأراضي السورية أم أن هناك أيادي خفية تعبث فإننا نثمن تاريخ هذا الوطن ووقوفه جانبنا في حرب أكتوبر ..1973
ها هي سوريا مدينة الفن والجمال.. إحدي بلاد الشام ووطن نزار قباني وفايزة أحمد تنتفض لمواجهة حرب عالمية جديدة بالإضافة إلي الحرب الداخلية وما خلفته من دمار..ويعلن الرئيس اوباما النية لتوجيه ضربة عسكرية ضد سوريا..ويصرخ الشعب مجددا. وهنا يطلب البابا فرانسيس من العالم أجمع الصوم والصلاة من أجل سوريا يوم السبت 7 سبتمبر..ومرة أخرى يستجيب الله وبقوة.. فيخرج الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” علي العالم يوم الاثنين 9 سبتمبر 2013 معلنا أن موسكو تري أن الاتفاق في مسألة السلاح الكيميائي يمكن أن يؤدي إلي انتهاء الحرب الأهلية علي سوريا.. في الوقت ذاته يخرج إعلان سوري بالموافقة علي المبادرة الروسية لجهة وضع السلاح الكيميائي السوري تحت إشراف دولي, واستعداد سوريا للانضمام إلي معاهدة منع انتشار السلاح الكيميائي, ويأتي تصويت مجلس العموم البريطاني يرفض المشاركة في الحرب علي سوريا, ثم تبعته مواقف أوربية كان أبرزها الموقف الألماني الذي عبرت عنه المستشارة أنجيلا ميركل.. لقد تحققت معجزة الصلاة..
الله الخالق الأعظم.. ضابط الكل.. الإله الحنان الذي يري ويسمع أنات البشر في كل زمان ومكان.. ليس عنده محاباة أو ظل دوران.. سنظل نصرخ إليك.. ونحوك أعيننا ونردد: “نحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا” (سفر أخبار الأيام الثاني 20:12).