خلق الله الإنسان ، وفيه صورة الله المحب ، لذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون الحب ، ولا يمكنه أن يتجاهل تلك العاطفة ، لأنها بعض منه. إنه يحس ويدرك ويتجاوب وأصداء الحب التي تملأ أجواء الكون ؛
لذلك لا ينبغي أن نندهش عندما نلاحظ أن أكثر الناس جموداً أو وحشية يرق في مرات كثيرة ويتجاوب كالطفل البرىء وكلمات ومشاعر الحب إذا وُجهت إليه في صدق .
إن من يقرأ أخبار الجريمة في كل بلاد العالم ، يكاد يعتقد أن العالم مجرد غابة، انطلقت وحوشها الجائعة، في حرب محمومة . وهذه الحرب الطاحنة لن تهدأ قبل أن تخلف وراءها حطام الإنسان. فكل صباح جديد، يحمل لنا مزيداً من أخبار القهر والظلم والتجبر. وكل مساء يأتي بمزيد من أخبار الفساد والمجون ، التي تقوم على الرق والاستغلال ومهانة المستضعفين لصالح المستغلين !
فعلى مستوى الأفراد ، نرى السرقة ، والاغتصاب ، والظلم ، والبطش ، والتحايل ، فأين الحب ؟! وعلى مستوى الجماعات ، نرى التنافس غير الشريف ، والتطاحن الظاهر. ونرى التعصب والتسلط ، والرغبة في التسيد وفرض السلطة على الآخرين . فأين الحب ؟! وعلى مستوى الدول ، نرى التطاحن ، والتجسس ، والتسابق على التسلح ، وتجارة الدمار، حتى أن نسبة ضئيلة مما يخزنه العالم اليوم من الأسلحة النووية تكفي للقضاء على جميع أشكال الحياة على الأرض. أي أن الدول تنفق أموالها في صُنع أدوات الهلاك ، لتقتل الأبيض والأسود والأصفر ، والشيخ والطفل والرضيع . فأين الحب ؟!
لقد شكلت مطامع الأفراد والجماعات ، والدول ، نسيجاً خشناً من الكراهية والحقد ، تشابكت خيوطه ، وتداخلت ألوانه ، حتى صار وجه العالم قبيحاً مفككاً .
ومع ذلك ليس إلا بالحب نعيش والحب هو المادة اللاصقة التي تجمع هذا العالم المفكك . إنه الزيت الذي يجعل العلاقات الإنسانية ناعمة ، والاحتكاكات أقل خشونة ! إنه النار التي تذيب العواطف الجامدة ، والمشاعر الثلجية . إنه الغذاء الحقيقي ، الذي يشبع النفس ، فتترفع عن الأنانية . إنه الدواء الحقيقي للنفوس المريضة .
وإننا نحتاج دائماً إلى جرعات الحب ، والله يعلم هذه الحقيقة عنا ، إنه يعلم إننا بالحب نعيش ، لذلك فهو لا يعطينا الحب في جرعات يومية ، بل يقدم لنا حباً دائماً أبدياً . فالله هو الحب المطلق ، ووجوده فينا هو الذي يحفظ حياتنا ووجودنا ، إننا بالحب نعيش . إن الله المحب يقود بالحب أكثر الناس شرًّا إلى أعمق الاختبارات الروحية ، التي تذوب فيها الأطماع والشهوات ، وتنمو فيها روح الحب والعطاء .
إن جوهر الحب الصحيح وغايته إذن هي معرفة الله ، لا معرفة الإدراك والخضوع ، بل معرفة الحب والحنين ، معرفة الولاء والوفاء ، معرفة الشوق والهيام .
إن جوهر الحب إنما هو قيام علاقة خاصة بين الإنسان وربه يبث فيها الإنسان شكواه وحنينه وهيامه ، ويتلقى الإنسان فيض ينابيع الحب الدافق التي تملأ قلبه ، فيحب الناس والدنيا جميعاً .
لقد وضع الله الحب في قلب الإنسان ، ليقترب به إلى الله ، ولينهل به من حب الله الذي لا ينضب ، ولا يقف عند حواجز المطامع البشرية الصغيرة في دنيانا الزائلة وأحلامنا الزائفة ! إن جوهر الحب هو الله نفسه ، والحب الحقيقي هو سكناه في قلوبنا واتحادنا معه في شركة قدسية . إن حبه نارٌ تطهرنا من نجاساتنا وتُحرق زيف مطامعنا . إن روح الله في قلوب التائبين هو ينبوع الحب الصحيح الذي يوقف تيارات الطمع والحسد والجشع والحقد ، ويلهب روح الود والمحبة والعطاء والإيثار.
لكننا نفقد طريقنا عندما نُغلق قلوبنا أمام صوت الحب الإلهي ، فنشبه بذلك سائقاً يملك سيارة رائعة لكنها غير مزودة بالوقود ! إن قلباً ليس فيه جوهر الحب لهو قلب معطل يمكن أن يدفعه صاحبه بالجهد خطوات قليلة ، لكنه لا يلبث أن يقف ، لأنه قلب بارد ، لذلك تتعطل قلوبنا ، وتقف جامدة على ممرات الحياة ؛ لأنها ليست مزودة بزيت العلاقة الحارة بالله .
الإنسان ليس فقط محتاجاً للحب ، لكنه من نعمة الله عليه قادر أن يحب ، بل قادر أن يتفاني في حبه ؛ فعندما خلق الله أبانا آدم كان يعلم أن هذا المخلوق المدلل لم يكن ليحس بالسعادة حتى في الجنة دون أن يكون هناك من يبادله هذا الحب ، لذلك خلق له حواء شريكة ووضع فيهما الميل للآخر.
الحب بمفهومه الشامل ليس شيئاً مجرداً ، وليس سلعة تُباع أو تُشترَى ، ولا يمكن استبداله بشيء أخر، ولا يمكن لشخص أن يفرضه على شخص أخر ، سواء بالاغراء ، أو بالقهر ، أو بالتهديد أو بالامتلاك .
الحب الحقيقي هو ” أن نريد الآخر كذات “. هو انفتاح وعطاء . إن انطلاقته العميقة تدفع الإنسان إلى التخلص من سيطرة ” الأنا ” ليلتقي بالأخر في أصالته وليعتبره ليس كشيء يُستخدم ويُتحدث عنه بصبغة الغائب ولكن كشخص يُتحدث معه بصيغة المخاطب ويُقام معه حوار ويُعاش معه في مبادلة وشركة ” النحن ” .