يشكّل عماد يسوع في كل الأناجيل نقطة الإنطلاق في حياته العلنيّة والخلاصيّة. هو من الأحداث النادرة التي أوردها الإنجيليّون الأربعة. إذا تأملنا لقاء يوحنّا بيسوع نجد أنّ يسوع هو من أتى مقبلاً نحو يوحنّا. مع أنّ يوحنّا هو المعمِّد والسابق، ولكنّه ما كان عرف يسوع أو التقاه لو لم يأخذ الحمل نفسه المبادرة. إنّ هذا اللقاء أعطى رسالة يوحنّا معناها الأخير،
فهو “يعمِّد بالماء حتى يظهر(يسوع) لاسرائيل”؛ وقد أبان الروح القدس للمعمِّد جوهر الذي يعتمد، ولولا هذا الظهور لما عرفه، وهذا تأكيد آخر على شخصية يسوع “الوديع والمتواضع القلب”؛ فهو لم يأتِ كالرجال العظماء، ولم يعتلن نفسه أمام الجميع كي يؤمنوا به، بل “كحمل صامت” أتى يتمّم إرادة الآب. ولكن صمته هذا، كان ليوحنّا صراخًا يدوّي، فكل رسالة السابق وهدف حياته كان هذا اللقاء، وبينما لم يشعر أحد بيسوع، بل أتى كسائر الناس، واختلط بهم، دوّى داخل يوحنّا بصرخة جعلته يعلن: “أنا بحاجة إلى الاعتماد عن يدك”. إنّها صرخة الإيمان والتعجب في آن لما يصنع هذا الحمل الازليّ؛ فهو الكائن قبل الجميع، وأتى يطلب العماد ، و يسوع هو مَن يعمِّد بالماء والروح؛ بينما يوحنّا هو السابق الذي يهيّأ الطريق، فإنّ يسوع هو الذي كان قبله، بينما يسوع يعتمد كسائر الناس، نرى أنّه الذي يحمل خطايا الجميع. فيصبح اللقاء بيسوع لقاءً صارخًا: أذهب إلى العمق، لترى بوضوح حقيقة ما يحدث، لتلتقي بيسوع الآتي إليك، فهو يعرف ما في قلب كلٍّ منّا كما عرف من قبل ما في قلب نتنائيل، وما في قلب المرأة السامريّة.
أن العماد هي ظاهرة قائمة في كل الأديان والحضارات وخاصة في المجتمع اليهوديّ. كانت الشريعة اليهودية تفرض في العديد من حالات النجاسة، إغتسالات طقسية تطّهر وتؤّهل للعبادة. ونرى الأنبياء يتنّبأون عن فيض ماء مطّهر من الخطيئة (زك13/1). كانت هذه الممارسات ترمز إلى تطهير القلب، وكان بوسعها أن تساعد على حدوثه إن اقترنت بمشاعر التوبة. كان العماد لا يمنح إلاّ بعد تجربة لفترة طويلة تسمح بالتأكيد من صدق في الهداية، وهو حمّام يومي تعبيراً عن الجهد في سبيل حياة طاهرة. وكان الشخص يغطس هو بنفسه في الماء بينما التائبون الذين سيتقدّمون إلى يوحنا سينالون العماد عن يده ومرّة واحدة. كذلك كانوا يتطّهرون بالماء حتى قبل الحضارة اليونانية. أما الهنود فكانوا يتطّهرون في نهر الغانج وكانوا يقولون: “أيها الغانج طهّرني”. أمّا الإسلام فيتطّهرون بالماء أي ما يسمّى “بالوضوء” الذي يرمز إلى الحضور والطهارة أمام الله.
أما معمودية يوحنا هي قائمة على التوبة ولها علاقة بالأزمنة الأخيرة. ربط يوحنا المعمدان العهد القديم بالعهد الجديد. ومعمودّيته تعلن قرب حضور الله وتمنح مرّة واحدة. وبحسب التقليد اليهوديّ لا توجب الإقرار بالخطيئة بل يكفي أن يقول المرء “أنا خاطئ”.
أن ما يميّز معمودية يوحنا عن بعض المعموديات، هو أن في المعموديات الأخرى كل واحد كان يعمّد نفسه، بينما مع يوحنا المعمدان أصبحت المعمودية تمنح من قِبَلِ رجل مرسل من الله للدلالة على أنها من وضع إلهي.
وإن يسوع بتقدّمه لإقتبال معمودية يوحنا إنما يخضع لإرادة الآب ويجعل ذاته بتواضع في صفوف الخطأة ولإتمام كل بر. إنه حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم. فعماد يسوع في الأردن ينبئ ويعدّ لعماده في الموت، جاعلاً هكذا حياته العامّة محاطة بين معموديتين. إن عماد يسوع على يد يوحنا قد كُلّل بحلول الروح القدس تحت شكل حمامة، وبإعلان الآب السماوي لبنوّة يسوع الإلهية. فحلول الروح على يسوع هو تنصيب له، يطابق ما جاء في نبؤة أشعيا: “ويحلّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والتقوى، روح المعرفة وتقوى الرب” (أش11/2).
يشكّل سّرالمعمودية أذن في الحياة المسيحية المدخل الوحيد إلى عيش أسرار الكنيسة، من خلال هذا السّر يدخل المعمد إلى حياة الله التي ظهرت بيسوع المسيح، ويدخل يسوع على حياة المعمد، فيصبح الإثنان شخصاً واحداً. في المعمودية يصبح عمل الخير من طبيعتنا وتصبح القداسة في متناول أيدينا وضمن إمكانياتنا البشرية. هذا ما تفعله المعمودية في كياننا. إن سار الإنسان وراء يسوع، استطاع في عالمنا الحاضر، أن يعيش ويعمل ويتألم ويموت عن ذاته بنوع إنساني حقاً، مسنوداً من الله، مستعداً لخدمة الناس في كل الظروف المؤاتية وغير المؤاتية طوال حياته و حتي في ساعة مماته.
بالمعمودية تموت طبيعتنا الخاطئة مع المسيح ونقوم معه إلى حياة جديدة. أن سّري المعمودية والإفخارستيا هما يكوّنان الكنيسة جسداً للمسيح، فمن اعتمد في المسيح وتناول جسده وشرب دمه أصبح واحداً معه وفيه. وانطلاقاً من هذين السّرين يصبح المعتمد واحداً مع سائر المؤمنين. فبعد المعمودية الإفخارستيا وهما من أهم الأسرار التي تجعلنا نتحّد بالمسيح ونتحوّل إليه. نحن مخلّصون بالإيمان بالمسيح الذي يتمثّل في المعمودية. فبالمعمودية ندخل إلى الإسرارالفصحية: نموت ونقوم مع المسيح ونشارك في موته وقيامته (روم6/1).
في سّر الإفخارستيا نجدّد إشتراكنا في الأسرار الفصحية. فمن خلال الإفخارستيا نحن نعيش معموديتنا على أساس يوميّ ويصل خلاصنا الذي ينمو إلى الكمال تدريجياً. من خلال معموديتنا نحن مدعوون أن نتحوّل في الإفخارستيا كما يتحوّل الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح. هناك قوّتان متعارضتان تتجاذبان الإنسان: الله يجعل الإنسان فيه روحاً يتوجّه نحو الخير ولكن الإنسان جسد ضعيف وخاضع لنير الخطيئة. أن الشّر يفسد معنى الوجود وليس فقط كنقص في الوجود، لذلك فالشر هو هذا العبثية والمعنى المعاكس على الإطلاق.
هناك حقيقتان تعملان باستمرار في حياتي وحياة كل شخص: الموت والحياة. فأنا أموت باستمرار مع المسيح وأحيا معه موتاً يقود إلى الحياة. إن الموت مؤلم وتكرهه الطبيعة البشرية. لذا يجب أن أتوّخى الحذر دوماً كي لا أتجّنب ألم الموت اليومي فأخفق في النمو الذي هو هدف حياتي. لذلك وجب أن أجتهد كل يوم لأنمو في يسوع بالموت عن ذاتي القديمة المكتفية بنفسها (أف4/22). فمن الخطأ أن نظنّ أن الولادة الجديدة تحدث فجأة ومن دون عناء. فما من دخول إلى حياة جديدة من دون ألم. أن التاريخ الروحي يُصنع من الداخل وليس من الخارج. فالخطيئة هي أكثر الأمور حماقة لأنها تقطع الإنسان عن الله مصدر الحياة. إنها تفضّل المخلوق على الخالق، إنها عبادة أصنام. الخطيئة أكبر عمل يعبّر عن قصر النظر. فعندما يخطئ الإنسان يفقد رؤية مصيره الأبدي، ويرى فقط إشباعه المؤقّت للرغبات الذاتية. الخطيئة قمّة الجهل، جهل مَن أنا، مَن الله، وما هي سائر الأشياء، الخطيئة إنكار الله. إنها جري وراء ظلال وهميّة معتبرة إياّها حقيقة. وما من وهم أكبر من الأنا التي خلقناها بأنفسنا على صورتنا ومثالنا، ونضحّي لأجلها بالأنا على مذبح الأصنام وهنا تنسحق الكرامات الإنسانية:
إننا نخسر أنفسنا إذا حاولنا كسب العالم كله. فعندما تتعرّض السفينة للغرق يضحّي بحمولتها القبطان لكي تنجو. هكذا نحن مدعوون أن نضّحي بحمولة سفينة حياتنا لكي تنجو من الغرق ونعبر إلى الشاطئ الأخر. أن حبة الحنطة التي تقع في الأرض إن لم تمت تبق وحدها. وإن ماتت أعطت ثماراً كثيرة. من الموت تولد الحياة هذا قانون الطبيعة. يقول لنا العلماء أن الخلايا التي في أجسامنا تموت باستمرار ويحلّ محلّها خلايا أخرى جديدة. هكذا ننمو وقد طبّق المسيح قانون الطبيعة هذا على حياتنا الروحية: “على الإنسان أن يفقد حياته لكي يحفظها للحياة الأبدية” (مر8/35). فكلما كانت هناك معاناة، كانت هناك فرصة للنموّ. وبدون معاناة أو موت ما من حياة أو نموّ. وذلك يعود إلى طبيعتنا الضعيفة الخاطئة. لذلك ينبغي التخلّص من ذاتنا القديمة لنفسح مكاناً لذاتنا الجديدة: “المخلوقة على صورة الله في البر وقداسة الحق” (أف4/22-24). لذا نحن مدعوون في كل هذا، أن نحاول دوماً والمحاولة هو أعظم ما نعمله دون أن نيأس. مدعوون أن ندرك، أن قوّة الله الفاعلة فينا تستطيع أن تعمل ما يفوق كلّ ما نتصوّره.