نجيب محفوظ (1882- 1972) نابغة طب النساء والولادة هو حفيد أصيل لجدودنا الذين تركوا أول بصمة وأول جهد (علمى) فى مجال الطب ، وإذا كان نجيب محفوظ تخصّص فى طب النساء والولادة
فهو امتداد لجدودنا المصريين القدماء الذين اهتموا بهذا الفرع من علوم الطب لدرجة إنشاء (تكعيبة النفاس – ماميزى) لعزل السيدة بعد ولادتها خوفــًا عليها من (حمى النفاس) ونظرًا لدور جدودنا فى مجال الطب فإنّ العالِم والطبيب البريطانى (جاميسون هارى) مؤلف كتاب (إيمحوتب) حتـّمتْ عليه أمانته العلمية أنْ يكتب رسالة موجّهة إلى المسئولين فى كل كليات الطب فى العالم قال فيها ((إننى ألح على جميع زملائى الأطباء فى جميع أنحاء العالم للاعتراف ب (إيمحوتب) عميدًا لهم دون سواه. إن أسكلوبيوس إله الطب لدى اليونان هو شخصية أسطورية ، سَلبَ فضل إيمحوتب ، لأنّ معرفتنا بهذه القمة المصرية جاءتْ متأخرة بسبب حاجز اللغة التى فك رموزها شامبليون. إن صورة إيمحوتب يجب أنْ تكون شارة لمهنتنا. وبعد أنْ ظهر إيمحوتب من وراء الضباب الأثرى وعرفنا سيرته وعظمته فإنّ الوقت قد حان لإقرار العدل الذى يستحقه وأنْ يُمنح المكانة الرفيعة التى اغتصبت منه لعدة قرون)) أما الاغتصاب فكان يقصد به (قـَسَم الأطباء) الذى يتلوه الطلبة عند تخرجهم من كليات الطب ، فهذا القسم يجب أنْ يكون باسم ((إيمحوتب وليس أبوقراط)) وقصة حياة الطبيب نجيب محفوظ ودوره فى مجال الطب أكبر دليل على أنّ الحضارة المصرية حضارة اتصال وليست انقطاع كما حدث مع حضارات أخرى كثيرة ، وهو هنا أشبه بما فعله محمود مختار فى مجال النحت .
000
تخصّص نجيب محفوظ فى طب النساء والولادة. وأثناء توليده إحدى السيدات صادفته معضلة تعوق إتمام الولادة : إذْ اكتشف (ناسور بولى) فى المثانة والمهبل ، فأجرى لها عملية جراحية لإزالة الناسور قبل الولادة فكتب الطبيب العالمى (دوبين) فى الكشكول الخاص بمحفوظ ((نجيب محفوظ يُعلن الحرب على النواسير البولية)) وعن هذه الواقعة كتب نجيب محفوظ فى مذكراته ((مع المران وأساليب المبتكرة تسنى لنا الحصول على نتائج مبهرة. وفى ألف جراحة قمتُ بها بقصر العينى حصُـلتْ على شفاء تام كلها. وعملتُ أفلامًا ملونة لجراحات هذه النواسير، عرضتها فى جامعات لندن،أكسفورد، أدنبرة، فينا، جنيف ولوزان …إلخ))
انتقلتْ شهرته إلى أوروبا ، فمنحته أكثر من جامعة شهادة الزمالة وإلقاء المحاضرات . ففى سنة 1932 أقام الاتحاد البريطانى حفلا لمرور مائة سنة على تأسيسه. فدعاه الاتحاد لإلقاء محاضرة من المحاضرات الرئيسية الثلاث فى قسم أمراض النساء . وكانت محاضرته بعنوان (تمزق رحم الحامل) ونشرتها مجلة (أمراض النساء) الإنجليزية. ثم انتشر الاقتباس فى المجلات والكتب الطبية مع الإشارة إلى اسم الطبيب المصرى نجيب محفوظ . وقال د. دوبين أنّ محاضرة نجيب محفوظ كانت حديث البيئات الطبية فى لندن لمدة شهر. وقالت رئيسة المعهد الطبى فى لندن ((يجب أنْ تذهب للطالبات الإنجليزيات إلى مصر لدراسة الطب))
ونظرًا لجهوده فى مجال طب النساء والولادة منحته الجمعية الملكية الطبية البريطانية الزمالة الفخرية عام 1947وهو نفس العام الذى منحتْ فيه هذا اللقب للسير(الكسندر فلمنج) مكتشف البنسلين . وفى نفس العام أيضًا حصل نجيب محفوظ على الزمالة الفخرية من الجمعية الملكية لأطباء النساء والولادة بأدنبرة. كما تم اختياره عضوًا شرفيًا فى الكلية الملكية لأطباء النساء والولادة بانجلترا ليكون واحدًا من خمسة حظوا بهذا الشرف على مستوى العالم (عام 1935) وفى عام 37حصل على العضوية الشرفية فى الكلية الملكية للأطباء بانجلترا وفى الأكاديمية الطبية بنيويورك . وفى عام 43تم اختياره عضوًا شرفيًا بالكلية الملكية للجراحين بإنجلترا . وفى عام 65دعته الجمعية الملكية لأطباء النساء والولادة بإنجلترا لإلقاء محاضرة وهو شرف لم يُمنح إلاّ لأعضاء الكلية الذين قدّموا مساهمات بحثية نادرة فى مجال طب النساء والولادة ، ونظرًا للإقبال الكبير من الجمهور تم نقل المحاضرة إلى مكان أوسع فى الجمعية الطبية بلندن .
البُعد الإنسانى فى شخصيته :
هذا البُعد وعاه من تربيته وتوجهات والده وأمه التى قالت له فى صباه ((إياك يا نجيب لما تكبر تمشى فى الطريق المعوج. واعلم أنّ الفرق بين الطريق المستقيم والطريق المعوج شعرة لا تكاد تراها فى أول الأمر. ومع التمادى فى الطريق المعوج تجد نفسك وقد سقطت السقطة التى لا تقوم منها)) لذلك نجد أنه (سواء فى مذكراته أو من أرّخوا لحياته) مثالا للإنسان الحريص على عمل الخير. فمثلا وهو فى مستشفى قصر العينى باشا تعرّض لموقف أظهر معدنه الأصيل ، إذْ كان قد حجز تذكرة للسفر إلى فينا لإلقاء محاضرة ، فجاءته سيدة من أسيوط على وشك الولادة . وبعد الكشف عليها تبيّن أنها فى حاجة إلى جراحة عاجلة قبل الولادة ، فأجّل سفره لمدة أسبوعيْن لدرجة أنه انتظر حتى ينزع (الغرز) بنفسه. وبعد شفاء المريضة سألتْ عن (الحكيم) الذى أجرى لها العملية. وعندما رأته قالت ((بقا هو الشاب الصُغير دا اللى شنبه لسه ما خطش؟)) ولما سألته عن اسمه واسم أمه قالت ((روح يا نجيب يا ابن مريم . ربنا يكافئك عنى . ح أدعى لك دعوه مستجابه. ربنا يجعل وشك جوهره. وف بقك سكره)) وعندما فتح عيادة فى حى (باب البحر) الشعبى قرّر أنْ يكون الكشف مجانــًا. وبعد ستة شهور ذاع سيطه فأقبل الأثرياء على العيادة فتقاضى منهم أجر الكشف ليُغطى مصاريف العيادة. كما كان يذهب إلى بيوت الفقراء لتوليد النساء بالمجان، ولذلك كان إصراره على إنشاء قسم لأمراض النساء والولادة بطب قصر العينى باشا. وهذا البُعد الإنسانى جعله يعترف بفضل العامل مصطفى ((الذى كان ماهرًا فى تحنيط الجثث وتشريحها. وكانتْ مهارته فائقة. وهو الذى علمنى طريقة تحنيط الجثث بالفورمالين . وكان العامل الثانى (عم رجب) كبير ممرضى قاعة العمليات . وكان رجلا كفئـًا رغم تقدمه فى العمر، وله الفضل فى تمرينى على طريقة تعقيم الآلات والضمادات بالبخار))
وعندما كان طالبًا ظهر مرض الكوليرا فى قرية من قرى أسيوط عام 1902. ولما علم أنّ الطبيب الذى كان يُعالجهم مات متأثرًا بالعدوى طلب أنْ يذهب مكانه. فحذره مستر(جودمان) وقال له ((أواقع أنت فى غرام يائس تتعجّل بسببه الموت؟)) فابتسم وقال له (غرامى الأول والأخير هو القيام بالواجب)) وهو هنا – دون أنْ يدرى – كأنما كان يُدرك قيمة تبادل العطاء ، تلك القيمة التى ميّزتْ شعبنا، فذكر أنه بعد عدة سنوات طلب منه أحد الأصدقاء إنقاذ ابنته التى تـعانى من ولادة متعسرة بسبب النزيف ، وعندما وصل إلى الإسماعيلية وجد الطريق متقطعًا بسبب فتح ترعة. فلم يكن أمامه إلاّ أنْ يجتازها بالسيارة التى تعطلتْ . فتقدّم عمال (الدريسة) فرفعوا السيارة وهو داخلها . وعندما قدّم لهم مبلغــًا كبيرًا من المال رفضوا المقابل المادى .
وهذا البُعد الإنسانى جعله يوجّه حديثه إلى الشباب فى الصفحات الأولى من مذكراته فقال ((نصيحتى الأولى لهم أنْ يلتزموا الصدق مع أنفسهم قبل الصدق مع الناس ، فلا يحاولوا تبرير عمل خاطىء بإقناع أنفسهم بأنهم على صواب ، لأنّ أقوى ضروب الشجاعة هى شجاعة المرء فى مواجهة خطأه والاعتراف به ومحاولة إصلاحه. ولابد من العمل فى هدوء وتواضع . والحذر من الغرور. واذكروا أنكم أصحاب أقدس رسالة فى الوجود ، لأنكم حملتم رسالة العلم ، فصار لزامًا عليكم أنْ تبذلوا من أنفسكم لأبنائكم الطلبة أقصى ما تستطيعون من تضحية. اذكروا أنّ مستقبل الطلبة ومستقبل الأمة أمانة فى أيديكم . تذكروا عندما يقف الطالب أمامكم للاختبار أنكم إنْ هضمتموه حقه فستقتلون فيه روح الاجتهاد ، وتـُولدون فيه خيبة الرجاء . علموا الطالب أنْ يلتزم بأداء واجبه كاملا بأنْ تـُشعروه بأنه أخذ حقه. وثقوا أنكم تـُؤدون أكبر خدمة (للفن) الذى تخصّصتم فيه إذا أنتم أخلصتم فى تعليم مرؤوسيكم وتمرينهم بالقدر الذى كنتم ترجونه لأنفسكم عندما كنتم مرؤوسين. وإذا واتتكم الظروف فكنتم أعضاء فى مجالس الكليات فعليكم أنْ تتحصّنوا بشجاعة الرأى تـُدافعون بها عن كل ما تؤمنون به))
شجاعته الأدبية التى تحدّث عنها هى التى جعلته يرفض تعيين ابن رئيس الوزراء مساعدًا لقسم أمراض النساء رغم القرار (الجماعى) من أعضاء مجلس الكلية. ذهب وقابل رئيس الوزراء (حيث كان طبيبًا لأسرته) وشرح له خطورة أنْ يقفز ابنه من طبيب امتياز إلى مساعد رئيس قسم دون اجتياز المراحل المُقرّرة . وسيكون هذا الاستثناء سابقة خطيرة بالنسبة لنظام التعيين فى الكلية. فشكره رئيس الوزراء وقال له إنه لم يكن يعلم أنّ قرار تعيين ابنه مخالف للقوانين وأنّ عميد الكلية لم يذكر له ذلك. فى تلك الفترة (قبل يوليو52) ذكر نجيب محفوظ أنه عندما كان طالبًا فى المرحلة الابتدائية زار المدرسة الشيخ حمزة فتح الله مفتش اللغة العربية. فتقدّم محفوظ بقصة لمدرس الفصل الشيخ المهدى فطلب منه قراءتها. وبعد أنْ قرأها أمام التلاميذ دعاه الشيخ حمزة فتح الله أنْ يقف عند السبورة. سأله عن اسمه فقال : نجيب. فارتجل الشيخ البيت التالى ((يا نجيبًا قد فزتَ رأيًا وقولا.. فاز من يهتدى إلى ما اهتدينا)) ابتسم مدرس الفصل وقال للمفتش : إنّ نجيب مسيحى . فردّ عليه المفتش ((لم أقل يا نجيب بل قلتُ يا نجيبًا. وهذه نكرة غير مقصودة)) ثم صافح التلميذ (نجيب) وأثنى عليه ثناءً جميلا .
إنّ نصيحة الطبيب نجيب محفوظ لشباب الأطباء ذكرتنى بما ورد فى بردية (سميث الجراحية) التى تركها جدودنا المصريون القدماء إذ ورد بها أنه عند فحص الجراح لتشخيص حالة المريض ، فإنّ الطبيب ملزم بأنْ يكتب فى بردية العلاج الموجهة لزملائه ورؤسائه وللمريض أنّ حالة المريض تخضع لأحد الاحتمالات التالية 1- هذه الحالة أعالجها وأشفيها 2- هذه الحالة أعالجها وسأجتهد فى شفائها 3- هذه الحالة لا أقدر على علاجها))
تعوّد الطبيب نجيب محفوظ على قراءة الأدب العالمى منذ أنْ كان شابًا ، فقرأ روايات شارلز ديكنز وهيمنجوى . وذكر فضل مجلة (المقتطف) التى قرأ فيها ما كان يكتبه د. شبلى شميل عن اكتشاف العالم كوخ Koch لميكروب التدرن الرئوى والمصل الشافى منه. وشرح نظرية دارون فى النشوء والارتقاء.
المستشفى القبطى :
لجأ محفوظ ومعه المرحومان د. إبراهيم فهمى المنياوى باشا ود. اسكندر فهمى (بك) جرجاوى إلى الجمعية الخيرية القبطية وكان يرأسها جرجس باشا أنطون، وشرحا له النقص الذى يعانيه المرضى المصريون عندما يُصابون بأمراض تستوجب الإقامة بمستشفى . فلما عرض الأمر على مجلس الجمعية قرّرتْ بناء مستشفى كبير. فكان بناء مستشفى القبطى . وحمد الناس للجمعية أنْ كان للمستشفى صفة قومية. فكان العلاج للفقراء على اختلاف نحلهم وتعدد مللهم وأديانهم . وكان ذلك فى عام 1926.
نجيب محفوظ الطبيب ونجيب محفوظ الأديب :
يشاء قانون المصادفة أنْ تكون ولادة الأديب الكبير نجيب محفوظ على يد الطبيب العالمى نجيب محفوظ . إذْ فى يوم 11/12/1911تعسّرتْ إحدى السيدات فى ولادتها. أشار عليها الأهل والجيران باستدعاء طبيب النساء والولادة نجيب محفوظ . تمتْ الولادة بخير. توجّه زوج السيدة إلى مكتب الصحة وفى خانة اسم المولود كتب (نجيب محفوظ) اندهش الموظف ولكن الأب أصرّ على أنْ يُسمى طفله باسم الطبيب (المسيحى) الذى أنقذ حياة زوجته وحياة الجنين الذى شبّ وصار الأديب نجيب محفوظ .
المصادر :
•مذكرات الدكتور نجيب محفوظ – هيئة قصور الثقافة- عام 2007.
•موقع منتديات شباب التوفيقية www.tawfikia.com