هذا المنطق الثنائي يقيدنا ويمنعنا من التفكير، فأمامنا اختيارين لا يجب الخروج عنهم ولابد من الاختيار وحينها علينا أن ندافع عن موقفنا بدون تفكير و حتى بدون قبول النقد. ويصبح من ليس معنا فهو علينا.
يدعى هذا المنطق منطق الهوية، والهدف الوحيد منه تمييز انتماء الأخر و نجيب على السؤال من أنت ؟ مثلما ينادي الحراس “مينهناك” ! فنبرز له بطاقة الهوية. فيسمح لنا بالمرور أو يضعنا رهن الاعتقال. في وقت الحرب يرحمنا أو يقتلنا فورا. فالسؤال: هل يختلفهذا الوضع عن وضعنا الحالي
لنوضح منطق الهوية بطرح مثل هو المناقشة الأولى بين شخصين لا يعرفان بعضهم البعض. وتختلف تلك المناقشة من بلد إلى أخر.في الولايات المتحدة, يكون السؤال: كم تكسب ؟ هذا السؤال من المستحيل سؤاله في مصر حيث سيتفجر بسببه العديد من الثورات للتفاوت الكبير بين الأوضاع الاقتصادية بين الأفراد. في فرنسا, نسأل : ما اسم حضرتك؟ أما في مصر فلا فائدة من هذا السؤال فبمعرفة دينك سيتحدد اسمك الذي لن يخرج عن محمد إن كنت مسلم أو جورج إن كنت مسيحي. أما في مصر, فتغير السؤال لكن منطقه هو واحد. نسأل “أنت أهلاوي ولا زملكاوي ؟”“أنتا مسلم ولا مسيحي؟” “أنت إخوانجي ولا السيسيجي ؟” ومن يطرح السؤال ينتمي إلى أحد الفرقتين, فالسؤال الحقيقي هنا: “هل أنت معنا أم علينا ؟
وبالنظر إلى الأمثلة الثلاث, سنجد أن في الكرة القدم يتوجب عليك أن تكون مشجعا لأي من الفريقين، الأهلي أو الزمالك، و غير مسموح أن تشجع أي من الفراق الأخرى. لأن تلعب لكنك ستجلس على مقعد ما في الاستاد أو أمام التلفاز لتشجع فريقك. وكما يتنافس الفريقان في الملعب ستنافس أنت مشجعي الفريق الأخر و ستخر إذا خسر فريقك و ستكسب إذا كسب. و كمشجع لن تقبل أي أي نقد موجه لفريقك لأنه سيعتبر تقليلا من شأنه أو تعديا عليه.
و ما يحدث في عالم الكرة يحدث في بقية العوالم، فنجد فيهم نفس منطق الهوية ونفس صفاته، وهي: الثنائية أي “نحن” مقابل “انتم”، عدم القيام بأي فعل حقيقي, التنافس, الولاء المطلق. أما في عالم الدين, فالفكرة من السؤال هو وجود عقيدتين اثنين فقط احداهما صحيح و هي بطبيعة الحال عقيدة من يطرح السؤال. ومن سمات منطق الهوية في الدين أيضا إلغاء أي طريق آخر إلا طريق النقل والوحي، ولا يوجد أي مجال للتجديد واستخدام العقل.فالمؤمن يحفظ العقيدة ويكررها ولا يفكر في اللاهوت وعلوم الدين، المنافسة للسيطرة على النفوس وليس خلاصها، أما السمة الرابعة هي الولاء المطلق وتكفير من يخرج عن العقيدة أو المخالف لها. وكما يمنع المشاركة الحقيقي في العالم الكوري يمنع العبادة والتدين الحقيقي في الدين، فنعزل الدين عن الفلسفة والبحث في الحقيقة ويتحول الدين إلى مجرد طقوس وشكليات. ورفض التعايش مع المختلفين معنا.
وفي عالم السياسة عندما نسأل هل ثورة أم انقلاب ؟ لا نطلب وصف للحدث بل نبحث عن الانتماء السياسي للفرد وهو شكل آخرللسؤال: هل أنت اخو نجي ولا سيسيجي ؟ ومعنى السؤال هو لمن تعلن خضوعك؟ وهنا والمشكلة هنا إن السياسة تصبح فقط للرئيس وأنت فقط تابع وليس مشارك حقيقي، فمنطق الهوية في السياسة هو منطق الطغيان والطغيان لا يقبل النقد.
والثنائية هنا تتجلى في أنك إذا رفضت تسمية ما حدث في 30 يونيو بالثورة فأنت من مؤيدي مرسي وبالعكس . أي إجابة لهذا السؤال هو قرار للدخول في صراع ضد العدو الذي إما أن يكون دولة غير شرعية أو إرهابيين.وهو دليل على رفض التعايش والدخول في الحرب
وآخر مثال نطرحه هو الهوية الوطنية ونسأل فيها هل أنت مصري أو أجنبي، فعندما نقابل أجنبي فيجب أن يكون هناك هوية مشتركبينننا وبينهم وإلا يكون الحرب مصيرنا، وهي تتجلى في عدة مستويات فانا “المصري” مقابل الآخر “السوري” مثلا أو “العراقي”، لننتقل إلى المستوى الأعلى فيشترك المصري والسوري والعراقي في هوية واحدة هي “العربي” مقابل “الغربي” مثلا. وتنتقل المستويات من العرق إلى الدين فالمصري المسلم في كفة واحدة مع المسلم الباكستاني مثلا مقابل أبناء الأديان الأخرى.
وفي النهاية لا أحد يلعب الكرة أو يمارس السياسة أو يتبحر في اللاهوت، لا أحد لديه رأيه الشخصي، فلا أحد يخرج عن فكر الدائرةالأكبر التي ينتمي إليها ولها منه الولاء المطلق.
فيجب أن نجعل منطق الهوية ينام ونيقظ الفكر حتى لا نموت بسبب ولاء بدون تفكير ونحيي أروحنا. نحن ليس أهلاويين أو زملكاويين لسنا مسلمين أو مسيحيين لسنا اخوانجية أو سيسيجية، نحن نلعب الكرة ونصلي ونحكم أنفسنا، ونستعير من ابن طفيل اسم حي ابن يقظان الذي تعرف على العالم والعلم بعقله وروحه وليس من خلال الصور المحفوظة مسبقا، فهو ليس صوت طائفة ما إنما صوت العقل.