حين اختارتني إدارة المسرح التجريبي عام 2005 لأكون عضو في لجنة التحكيم الدولية كان لابد أن اترك بيتي وأقيم في الفندق الذي يعيش فيه أعضاء اللجنة، حيث كنا نلتقي للتشاور كل بضعة ساعات. ورغم الانشغال الكبير جدا بأعمال التحكيم وجدت نفسي خلال الأيام العشرة قد أنجزت عملا كثيرا سواء من حيث قراءة مواد لمجلة “أدب ونقداً” – التي كنت أرأس تحريرها حينذاك، أو كتابة الافتتاحية فضلا عن إنهاء كتابات كثيرة أخرى كان على انجازها. ولم أكن أجد الوقت تحت وطأة مهامي المنزلية، انشغلت بهذه التجربة بقضية المرأة العاملة والوقت. والمرأة المبدعة رسامة أو روائية، سينمائية أو شاعرة، مسرحية أو ناقدة.
استعدت ما كانت قد كتبته الشاعرة السعودية “فــــوزية أبو خالد” عندما لا يكون عندي وقت الا لتوزيع جسدي عضوا على ادواري الحياتية الا دوري كأم تحبل وتلد وترضع وتربى وتكبر ولا تكبر على اللعب مع أطفالها بل تخشى أن يكبروا ويتركوها تلعب وتذاكر وتكسر زجاج النافذة وحدها. دوري كامرأة عاملة تعصرها الوظيفة ويلوى حبلها الشوكى روتين العمل، كجارة لابد أن تجامل التجمعات النسوية من حين لحين حتى تتجنب تهم الإسترجال والاستعلاء.
دوري كصديقة تحتاج حنان الصديقات ولا تستغنى عن غيرة بعضهن الحميدة أو حسدهن السام، دوري كإبنة عليها أن لا تقول أف، ودوري كزوجة عليها أن تكون امرأة متزنة ومتزمتة في النهار وحانية خليعة في الليل، ودور ولود في كل الأوقات.
دوري كشغالة وطاهية.. عندها في هذه اللحظة الدهرية الطويلة.. الطويلة، وفى هذا العمر القصير.. القصير. <تعربد> الكتابة في أعصابي بشماتة وتشفت كعدو لدود متربص وفوق هذا يملك القدرة على البطش والتنكيل
تدخل الكتابة برعونة وطيش بيني وبين ادواري الحياتية كلها وتخرب العلاقة بيني وبينى
وتتعامل “فوزية” شأن غالبية المبدعات مع إنتاجها الأدبي كأنها طفلة وكأنها تواصل الأدوار الأسرية.
حين وقعت على هذا الجزء من شهادة “فوزية” استعديت على الفور كل من قصيدة ” ادونيس” وهو شاعر عربي كبير ومؤثر جدا في حياتنا الثقافية عن الوقت وخطر لي أن أقارن كيف يرى الوقت مبدع، رجل بصورة تأملية فلسفية مجردة وكيف يصبح الوقت لدى امرأة هو كل هذه التفاصيل والانشغالات التي ترتبط بكونها امرأة وكيف يؤثر ذلك كله على إنتاجها الإبداعي.
واستدعيت أيضا في مخيلتي بعض أجمل لوحات الرسامة المصرية الموهوبة “شلبية” التي قدمت فيها نساء منقسمات على أنفسهن، و مكبلات بإرادتهن كأنهن في حالة ترويض للذات.
وقد علقت واحدة من لوحات النساء المنقسمات “لشلبية” على جدار في مكتبي تذكرني في الغد والرواح بالوضع المعقد للنساء.. وحين انظر إليها تهدأ أعصابي التي تفتت نتيجة الانشغالات الصغيرة
تذكرت أيضا مقالة “فيرجينيا ورلف” الكاتبة والروائية الانجليزية الرائدة التي جددت فن الرواية في أوائل القرن الماضي المقالة بعنوان “غرفة لها”.. قالت فيها أن لكل فرد آخر في البيت مكان خاص به حتى السائق ماعدا أنا .
وعلى هذه الفكرة تقدم الكاتبة السورية “سمر الشيشيكلى” قصتها “مطلوب خصوصية” عن امرأة لا تجد مكانا تنفرد فيه بنفسها، فتذهب لتختبئ في مكان.. قص.. في شرفة المنزل
وتطرح الروائية الجزائرية “أحلام مستغانمى ” قضية الوقت في رواية أخرى عملية تماما بدورها حين تقول ” كانت طموحاتي النسائية بسيطة لا تتجاوز أن تكون لي خادمة كي أتمكن من التفرغ للكتابة.” وحين كان لها ذلك في فرنسا حيث تعيش قالت: “كنت ادفع لها للخادمة معاشا يساوى بالضبط خمسة أضعاف ما سأربحه فيما بعد من حقوق تلك الرواية بعد سنتين كاملتين من بيعها”
ورغم كل هذه الصعوبات.. ورغم قلة عدد المبدعات مقارنة بالرجال فإن المرأة المبدعة في الوطن العربي أنتجت أعمالا مرموقة في كل المجالات التي اقتحمتها خارجة من ضيق الوقت و شح المال.. و العصف بالحريات والأصوليين والمؤسسات الدينية المعادية للمرأة.
أبدعت النساء في الرواية والقصة، فن المسرح والسينما والفن التشكيلي تماما كما أنهن يبدعن الحياة ذاتها حين يجددن الشعب عبر الإنجاب وتربية الأطفال.. لسان حال المبدعات يقول كما قال ” نجيب محفوظ ” الذي قضى الجزء الأكبر من عمره موظفا حكوميا..
“لقد استفدت من نشارة الحياة”