اتسم النظام السياسى المصرى على مدار تاريخيه الحديث بالإنغلاق، فدائما ما كانت هناك نخب تحتكر الحيز السياسى لفترات طويلة، إلى أن يأتى حدث كبير فينفتح النظام السياسى أمام نخب جديدة لتجد لها مكانا سواء فى مركز النظام أو على أطرافه. وهكذا فإن الحيز السياسى نادرا ما يتغير بقدر ما تُفتح أبوابه لدخول نخب جديدة وتنغلق مجددا. ومع ذلك فإن ما تشهده مصر حاليا يبدو مختلفا، ليس لأن النظام السياسى تغير، ولكن لأنه انفتح أو فُتح على ما لا طاقة له به، فقد تكسرت أبوابه التى عفى عليها الزمن، فكان الإرتباك لأنه نظام لا يعرف سوى المركزية والولاء والانغلاق، وليس فى مقدوره تنظيم الحشود إلا إذا كانت خارجه، وهى الآن تتعارك خارج أروقته وداخلها.
لنقل أن المحطات التى تغيرت معها النخب لم تكن كثيره فى تاريخنا الحديث، فقد عاشت مصر الحكم الملكى منذ التحديث، وتم كسر هذه الدائرة بتكوين سلطة يوليو العسكرية فطبعت النظام بطابعها، وظلت سلطة شديدة المركزية، ولم تسمح بأى نوع من التغيير إلا من داخلها. وهذا ما أحدثه السادات والذى زعم تصحيح المسارات. وفى الحقيقة أن الأبواب التى فتحها السادات كانت تلك المطلة على الإقتصاد وليس السياسية، فمن خلال سياسة الانفتاح الاقتصادى أصبح الاقتصاد هو الباب الخلفى لدخول رجال أعمال إلى الحيز السياسى، ودخول رجال السياسة إلى مجال الأعمال. وانغلق النظام مجددا على نخبته القديمة الجديدة. وظلت كل القوى السياسية الأخرى خارج هذا النظام إلى أن أصبح بعضها على هامشة من خلال تجربة حزبية فقيرة وبائسة. وجاء مقتل السادات بأيدى من غازلهم وخلى بهم، أى قوى الإسلام السياسى.
وكان نظام مبارك امتدادا لسابقه، ولكن فترة مبارك شهدت عدة ظواهر، لم تؤد إلى انفتاحه بقدر ما أدت إلى تهالكه من الداخل ومحاصرته من الخارج. فمن ناحية أولى حدثت تطورات أثرت على المحيط الخارجى للنظام، وقد تمثلت هذه التطورات بداية فى ظهور ما بات يعرف باسم “المجتمع المدنى” والذى أصبح حيزا جديدا لاحتواء وإعادة إنتاج نخب من خارج النظام قادرة على التواصل مع المجتمع الدولى. وهكذا ظهرت معادلة المجتمع المدنى مقابل الدولة التى لم تكن معروفة فى السابق. ثم ظهرت الحركات السياسية التى استهدفت مركز النظام مباشرة، ويعود الفضل فى هذا الحراك الجديد إلى حركة “كفاية” التى كان لها السبق فى هذا الصدد. ثم توالت التطورات بظهور حركات جديدة واتساع مساحة الدور السياسى للإعلام المستقل. ومن ناحية أخرى، فى حين ظل نظام مبارك منغلقا على ذاته مواصلا حماية مركزيته وحدوده ومستبعدا النخب التى بدأت تتشكل على حدوده، إلا أن النخب الموجودة داخل أسوار النظام بدأت هى ذاتها فى التناحر، وهو تناحر أصاب السمة الأساسية للنظام فى مقتل، أى مركزيته.
وجاءت أحداث يناير 2011 كهجوم غير مسبوق على هذا الحيز الذى بات محاصرا من الخارج ومتهالكا من الداخل. وهكذا لم يكن الأمر مجرد استبعاد مبارك ولكن فتح أبواب نظام طال زمن انغلاقه. وبالفعل فقد تم تكسير العديد من أبوابه ودخلت إلى الأروقة القوى الأكثر تنظيما لتحتل المقاعد القديمة، وهى الآن تسعى إلى غلق الأبواب مجددا، ولكن مأزقها أن الكثير من الأبواب لم تُفتح ولكنها تحطمت، وأن ثمة أبواب داخل حيز النظام مازالت مغلقة. وربما هذه هى أزمة حكم الإخوان: حصار حاد من الخارج، و انغلاق مزمن عشوائى فى الداخل.