فقدت مصر وأسرة الفنانين التشكيليين فناناً وزميلاً وأحد الفنانين المخلصين لفنه وهو الصديق العزيز الراحل صبحي جرجس سعد (1929- 2013).. ذلك المثال الأصيل إرتبط بقوة بخصائص الفن المصري..
منذ أكثر من أسبوع وفي 21 يناير 2013، رحل عن دنيانا الفنان القدير صبحي جرجس، الذي أضاء الحياة الفنية بما قدمه من إبداع..حيث عطائه كان كبيراً في تطور الحركة الفنية في مصر.. الفنان الراحل من رواد التجديد في ميدان تشكيل التماثيل المعدنية.. وتميزت إبداعاته برؤية تجريدية ميزته عن باقي نحاتي جيله حيث أعاد تركيب شخوصه من جديد في تماثيله مستخدماً خامات متنوعة تتسم بالقيم الجمالية.. وبالقدرات المتعددة الألوان للفن المعاصر.. بالإضافة إلى خبراته على مدى أكثر من نصف قرن قضاها فناناً شاملاً وصاحب رسالة في مجال تعليم فن النحت..فأضفى على تماثيله ولمسات فرشاته مزيداً من الحساسية المرهفة في الأصالة والمعاصرة.
حصل الراحل على جائزة الدولة التقديرية في يونيو 2008 بعد مشوار طويل في عالم الفن تقديراً لعطائه المستمر ضمن المبدعين في الفكر والمعرفة والعلو والثقافة والإعلام. وحصوله على هذه الجائزة تتويج لعدة جوائز حصل عليها أهمها الجائزة الأولى لفن النحت في بينالي الأسكندرية عام 1994، وبينالي القاهرة الدولي الخامس عام 1995..كما أقام 20 معرضاً خاصاً وشارك في جميع المعارض المحلية والدولية منذ تخرجه..ومثل مصر في بيناليات عديدة منها بينالي فينيسيا الدولي عام 1976، وأسبانيا والهند…وبينالي القاهرة الأول عام 1984 وبينالي الفنون القومية طريق الشمس في الأكوادور عام 2006 والمعرض الشامل عام 2007.
وكانت وزارة الثقافة قد أصدرت من خلال المركز القومي للفنون كتاباً عن فنه وتاريخ مشواره الفني..وكتب عنه كبار نقاد ومؤرخي الفن في مصر والخارج العديد من المقالات بمختلف اللغات…وله متحف دائم بشونة الفن بعجمي الأسكندرية.
إمتازت تماثيل الراحل صبحي جرجس بكتل ذات حركة وإيقاع تعبيري مع الإحساس بالبنائية المحسوبة- الزوايا والميل.. تعامل معها الفنان بخامات متنوعة .. صاغها وشكلها في رقة و بساطة فأحدث فيها حركة ديناميكية في إتجاهات مختلفة ودائرية.
ومجموعة إبداعاته تعبر عن الحب والتفاؤل.. وبساطة الطفولة المليئة بالحياة، تعزف أعذب الألحان بالجمال والشموخ حيث برع في تحويل مادة خاماته إلى عمل نحتي ينطق بالحيوية في رشاقة وجمال الحركة الساكنة في مرونة وليونة الإنسان وصلابة المادة في ذكاء وقدرة على المزج بين التشخيص والتجريد تعبيراً عما يحس به الفنان في كتلة نحتية معاصرة.
أعمال الفنان الراحل نموذجاً من الأصالة والمعاصرة..حيث يتوحد فيها الماضي بالحاضر.. فنجد في إبداعاته الشخصية المصرية التي تعتبر إمتداداً للفن المصري القديم.. ولكن بروح العصر.. أي أنها موضوعات موروثة في تركيبات إبتكارية من الذات المصرية في قالب من الحداثة.
المتأمل لإبداعات صبحي جرجس يتلمس فيها نبضات إيقاع يدي الفنان من خلال تركيب عناصر التمثال وتألقه..حيث الدقة المتناهية في إستخلاص ملامح الجسم وبراءة الطفولة والتعمق في دراسة جزيئاته.. ولذا إعتمد على الرمز في أعماله الغامضة المملوءة بالحياة وبشحنة من المشاعر والبلاغة الفنية برؤيته الذاتية.
كان الفنان الراحل من الفنانين الموهوبين الذين تعددت مواهبهم…فهو فنان مثال ورسام وعازف على الناي والقانون… لمالا فهو إبن عازف وعاشق الناي المعروف جرجس سعد الذي كانت تعتز به كوكب الشرق أم كلثوم وتعتبره أحد العازفين الأساسيين في فرقتها، وقد ورث الإبن عن والده الموسيقي والعزف فوضحت تلك النغمات بعد ذلك في إبداعاته الفنية.
ولد صبحي جرجس عام 1929 في أحد أحياء القاهرة الشعبية “حي القللي”..في هذا الحي عرف التراث الشعبي ودرس المجتمع وإلتحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة وتخرج عام 1958..ثم سافر إلى إيطاليا في بعثة لإستكمال دراسته الفنية.. إتجه الفنان في تطبيق إبداعاته النحتية إلى الإعتماد على خامات غير خامة الجبس التقليدية.. وذلك بعد المرحلة الأولى من تكوينه الفني في الفترة مابين 1965 حتى 1970، وتوصل إلى خامات مختلفة لتنفيذ أفكاره وإبداعاته.. حيث أن الخامة لها دور كبير في تأكيد المضمون النحتي التي جعلت أعماله مميزة وذات طابع خاص بالفنان صبحي جرجس يتعرف عليها المشاهد بمجرد رؤيتها وسط العديد من الأعمال النحتية.
تعايش مع أسرار الخامة ووضع فيها خبراته على مدى مايقرب من خمسين عاماً برؤيته للأشكال المجسمة من مادتين النحاس والبرونز وغيرهما… وعبر من خلال تماثيله عن القيم الفنية المصرية النابعة من الوجدان والبيئة…فعلاقتها مع الإنسان أبدية كتمثال “حارس الأرض” وتمثال “ست الحسن” و”إتزان” و”أمومة” و”حب الحياة” وغيرها من التماثيل التي ترتفع في شموخ وحيوية بالفراغ في أي مكان وزمان.
وكان لصبحي جرجس تجربة في فن الرسم الملون “التصوير الزيتي” التي تمثل نماذج من المراحل الإبداعية المختلفة والتي اقتربت من تشكيلاته النحتية في الأداء.. ولكنه نفذها بالألوان وهي عبارة عن تحضيرات أو رسومات لتماثيله المعدنية أو البرونزية..نلمس فيها عناصر تكويناته التي تتميز بالكتلة..رسمها على سطوح لوحاته القائمة لكي يبرز شخوصه المرسومة ببعض الظلال وكأنها تماثيل نحتت على سطح لوحاته..نجد بحثه فيما وراءها ليصل إلى الجوهر.
فناننا من الذين تعلقوا بالإنسان وأحبوا الجسم البشري وآمنوا بموضوع الأمومة والأسرة والطفل بشكل خاص..فهو صاحب قضية في الفن والإبداع “مدرسة فنية” يمكن أن تكون قدوة لدارسي فن النحت وفنانيه من الشباب..وله تأثير واضح البصمات على أجيال من الفنانين وحياته الفنية مليئة بالإنفعالات الحلوة والمرة التي نقلها بصدق وحب وإحساس على تماثيله.
إستطاع أن يجمع بين منابع الثقافة الغربية والتراث المصري الحضاري..وقدمه من خلال واقع الحياة ودور الفن وإلتحامه مع المجتمع كما إستطاع أن يخلق تياراً قوياً ومجدداً لفن النحت يعتبر طليعة للحركة الفنية المعاصرة.
والراحل صبحي جرجس الذي أمتعنا وأثرى الفن والفكر بإبداعاته لمصر والعالم المعاصر الذي قدم قمة رفيعة من فن النحت المجسم والبارز الذي تختلط الأصالة في أعماقه بالبيئة إيماناً منه بالأصالة والمعاصرة في الفن…وهكذا عرف في شتى أنحاء العالم شرقاً وغرباً يفيض فنه الرقراق بالجمال كما يحمل رسالة الحق والخير.