في غضون عقد من الزمن تغير تماما الإطار الذهني الذي يطل من خلاله معظم الأميركيين, بمن فيهم خبراء السياسة الخارجية, علي العالم. ففي فبراير عام 2002 كانت الولايات المتحدة والتحالف الشمالي بأفغانستان قد خرجا لتوهما من انتصار مهم أطاح نظام ##طالبان## ومهد الطريق لتنصيب حكومة تابعة في كابول, وهو ما حدا بمجلة رصينة مثل ##الإيكونومست## إلي التأكيد بعد عام بنبرة تفاؤلية أن أفغانستان ##أكثر استقرارا مما كانت عليه طوال 24 عاما الأخيرة##. وبعد ذلك انخرطت أمريكا في حرب أخري بالعراق, وكانت ثقتها عالية في قدرتها علي الثأر لنفسها من الهجمات علي نيويورك والبنتاجون التي تبين لاحقا أن لا علاقة للعراق بها, وذلك لخلق شرق أوسط جديد, حيث اعتقد الأمريكيون أنهم يتربعون علي قمة العالم وبأنهم قادرون علي كل شيء, وأن التقدم من الآن فصاعدا هو المآل, بل إن أحد الوجوه البارزة في تيار المحافظين الجديد قال وقتها: ##لدينا وكالة من أجل التنمية الدولية ستحول الصومال إلي ما يشبه النرويج##, وهي كلمات تعبر عن نظرة أمريكا للشرق الأوسط الجديد الذي كانت تطمح إلي إقامته. لكن بعد عقد علي هذا الكلام وإنفاق أكثر من تريليون دولار, والخسائر البشرية الكبيرة, ما زالت الحرب في أفغانستان مستمرة دون هوادة, فيما الحرب في العراق, التي يقال إنها انتهت, لاتزال في الحقيقة متواصلة في ظل إبقاء ستة آلاف من المسؤولين وحراسهم الشخصيين في البلاد. هذا في الوقت الذي يمكن فيه استبعاد حرب علي بلد إسلامي آخر هو إيران.
وفيما تواصل واشنطن توسيع انخراطها العسكري في العالم غير الغربي, يري الرأي العام الأمريكي والعديد من الخبراء في السياسة الخارجية, أن الولايات المتحدة في طريق الانحدار, وأن تماسكها الاجتماعي ووحدة الهدف بدآ يضيعان, ناهيك عن الانقسامات المجتمعية بين أصحاب الثروة والغالبية العظمي من المجتمع التي يزيد من تفاقمها ضعف الاقتصاد بسبب الركود العالمي الذي يهدد بكساد محتمل.
والأمر هنا لا يتعلق بوهم يشعر به الأمريكيون, بل هناك من المؤشرات ما يدل فعلا علي هذا التراجع الذي تكرسه أزمة النظام الانتخابي الأمريكي, والصراعات السياسية غير المجدية. وقد رصد هذا الضعف الأمريكي المفكر السياسي والاستراتيجي البارز زبيجنيو بريجنسكي, في كتابه الأخير الذي أكد فيه أن أمريكا ##تعاني من تراجع واضح لأسباب داخلية وخارجية##, وأن فقدانها للنفوذ الدولي يهدد الجهود العالمية للتعامل مع ##القضايا المهمة لازدهارنا الاجتماعي وللبقاء البشري##. وتختزل أمريكا نظرتها للعام في إطار يبالغ كثيرا في التخوف من الصعود الصيني والتحسر علي الانحدار الأمريكي, وهي النظرة المغلوطة المستندة علي نمو الاقتصاد الصيني وقوته المالية, بالإضافة إلي الطاقة البشرية الهائلة بعدد سكانها البالغ 1.3 مليار نسمة. لكن هذا التصور يغفل أن العدد الكبير للسكان لا يعني تلقائيا الازدهار الاقتصادي وممارسة النفوذ كما اكتشفت الهند ذلك, كما لا يتحول التفوق العددي للسكان إلي قوة عسكرية ضاربة علي غرار ما يعتقد ذلك البنتاجون الذي راح يدشن قواعد عسكرية جديدة في آسيا لمواجهة احتمالات الحرب في المنطقة. وفيما تمتلك الصين دخلا إجماليا محليا كبيرا وضخما, إلا أن نصيب الفرد منه يظل متواضعا وهزيلا بحيث تحتل الصين المرتبة 91 في قائمة من 184 دولة شكلها صندوق النقد الدولي, لتسبقها في ذلك ستة بلدان إفريقية. أما فيما يتعلق بالمعايير المعيشة مقارنة بالقدرة الشرائية, فإن الصين تهبط أكثر في سلم المقاييس الدولية.
ومن المهم في ظل هذا التخوف من الصين الذي يحكم النظرة الأمريكية للعالم التساؤل عن تطلعاتها العالمية, فهي إلي حدود علمنا لم تبد يوما اهتماما بالهيمنة الدولية فيما عدا جوارها الإقليمي الذي تعتبر نفسها فيه صاحبة الحضارة, وحتي استثماراتها العالمية تبقي منفصلة عن الغايات السياسية ولا تسعي من خلالها إلي بسط نفوذها الاستراتيجي, ليقتصر همها علي توفير المواد الخام لاقتصادها بما فيها الطاقة.
لذا من الأفضل للأمريكيين التخلي عن هوسهم بصعود الصين وقدرتها علي اكتساح أميركا لأن ذلك لن يحصل, وبدلا من ذلك العودة إلي نظرتها التقليدية عن التهديد الأوروبي. فلو أن الأوربيين خرجوا من أزمة الديون العاصفة التي تجتاح دولهم والمستوردة من الولايات المتحدة ومن وول سترتيت تحديدا, فستجد أمريكا نفسها أمام دول أوربية تمتلك مجتمعة دخلا إجماليا محليا أكبر من نظيره الأمريكي, بما في ذلك نصيب الفرد منه. هذا بالإضافة إلي معايير معيشية أفضل وتعليما متميزا يفوق النظام التعليمي الأمريكي يخرج عينة من المهندسين ومديري الشركات أفضل وأكفأ من نظرائهم في الضفة الأخري من الأطلسي. وهو الأمر الذي أدركته بالفعل شركة أمريكية مثل ##بوينج## بعد المنافسة الشرسة لشركة ##إيرباص## علي الأسواق العالمية وتحقيقها لاختراقات كبيرة في هذا المجال. دون أن ننسي عدم استعداد تلك الدول للانخراط في الحروب الأمريكية التي لا شك أنها ستوفر لها موارد مالية هي في أمس الحاجة إليها لتطوير اقتصادها والعودة إلي الساحة العالمية كمنافس حقيقي للولايات المتحدة أكثر صدقية من الصين.
واشنطن بوست