المنيا مهد التوحيد من اخناتون وحتى الحركات الدينية المعاصرة، الإسلامية( التكفير والهجرة، الجماعة الإسلامية، الجهاد…..الخ) وما تلاها من تيارات حديثة مثل ( الوعي- التيار المصري) وعلى الضفة الأخرى ، فالمنيا منطلق أساسي لتواجد الآباء اليسوعيين منذ مطلع القرن التاسع عشر بما لهم من أدوار روحية واجتماعية وثقافية، وتضم أحد أبرز الأديرة المؤسسة للرهبانية المصرية ” دير الانبا صموئيل المعترف”. واحتمت بها العائلة المقدسة بدير العذراء في أول لجوء سياسي ديني في التاريخ، ومنها انطلقت تيارات حداثة على يد الراحل الكبير القس الدكتور صموئيل حبيب مؤسس الهيئة القبطية الإنجيلية قبل أن تتطالها رياح العولمة الغربية ، ولا نغفل دور ابنه الدكتور رفيق حبيب في بناء أول جسر بين الإسلام السياسي والمسيحية السياسية، ومن المنيا أيضا انطلقت الحركات الأصولية المسيحية مثل “تيار الدنياليين” نسبة إلى الراهب السابق دنيال البراموسي، الذي خطى على منهج مارتن لوثر وتزوج وأسس تيار سلفي مسيحي.
طوال ثلاثة أسابيع عشتها في المنيا ، تقابلت مع ممثلين لكل التيارات، وتوقفت بشكل خاص امام شاب في منتصف العقد الثالث من العمر يدعى محمد جمال المرشح المستقل، وهو أحد أبناء التيار المصري ( المنشق عن الإخوان المسلمين بعد ثورة 25 يناير )، وهو شاب يمتلك زعامة (كاريزما) ، وأفكار تجمع ما بين يسار الوسط والليبرالية ، واستطاع هذا الشاب أن يجمع بمفرده 28 ألف صوت (أي أكثر من نصف ما حصلت عليه قائمة الوسط) ووقف خلف هذا الشاب لفيفا من الشباب المسلم والمسيحي، واعتقد أن ذلك الشاب سوف يملء فراغ تضاؤل نفوذ اليسار التقليدي، ومن غرائب القدر أن ينسحب من قائمة ( الثورة مستمرة بالمنيا) ثلاثة مرشحين، ولأول مره في تاريخ اليسار المصري ينسحب أحد الأعضاء أو المرشحين، وأعلنوا انضمامهم إلى حزب النور السلفي!! ، الأمر الذي يفسره دكتور وجيه شكري القائد التاريخي لليسار بالمنيا وأمين حزب التجمع ، بأنه نهاية لليسار القديم، ودعوة لوضع رؤية يسارية جديدة تجمع ما بين الاشتراكية والديموقراطية والمرجعية الروحية. وتعرفت على نخبة من الشباب الكنسي الذي انخرط في السياسة منذ ثورة 25 يناير فيما اطلقت علية “المسيحية السياسية” ، وفي مقدمة هؤلاء دكتور نادي كستور ، العضو المؤسس للحزب المصري الديمقراطي وهو ممن يطلق عليهم في علم السياسة ( قيادة طبيعية)، دكتور نادي كستور المسئول عن النشاط الكشفي بالكنيسة الأرثوذكسية بالمنيا، وأحد أبناء أعرق العائلات القبطية الوطنية ، يلتف حوله مئات الشباب من مختلف الاتجاهات ، مسلمين ومسيحين ، أغلبهم من الصيادلة والأطباء بحكم انخراطه في العمل النقابي منذ سنوات طويلة كما أنه أحد الأبناء الحقيقين للطبقة الوسطى حاملة القيم الروحية والاخلاقية والسياسية، لم يكن انضمامه للحزب المصري الديمقراطي دفاعا عن مسيحيته فحسب ، بل يمتلك دكتور نادي كستور والتيار الشبابي الملتف حوله رؤية وطنية أقرب للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية المسيحية الأوربية ، فهو من جهه يرفض الأحزاب ذات المرجعية الدينية حتى لو كانت مسيحية ، كما أنه يرفض إعطاء الأولوية في الدفاع عن الهوية الدينية على حساب الوطنية، ويقف خلف هؤلاء جميعا فكر مستنير لاسقف يمتلك رؤية لاهوتية وطنية سياسية هو الانبا مكاريوس (الراهب كيرلس البراموسي سابقا) وهو من الرهبان التقدميين والزاهدين والذين ينتظرهم مستقبل وطني وكنسي كبير استمعت لهم بقلب مفتوح وذهن مدرك لاقدار هذه الحركات، وادركت ان المنيا سوف تؤسس لمدرسة تحاول الاجابة على سؤال : ” هل الدين محرك التاريخ ام الاقتصاد” ، وبعيدا عن التخوفات المشروعة لدى البعض خاصة من ابناء الأقليات الدينية او العرقية او الثقافية .. فأن المواطنين المصرين الاقباط المنياويين تدفقوا كالنهر في المشاركة السياسية ، كما أنهم شاركوا في كل الأحزاب بما في ذلك حزب ” الحرية والعدالة” ، وأكاد أجزم بأن الأقباط صوتوا لقوائم ، وأشخاص تضم أكثر من 70% مسلمين، ولعبوا دور مؤثرا في رسم الخريطة السياسية بالمنيا، وأصبحوا قوة مؤثرة يعمل لها ألف حساب ، ورغم سخونة المعركة الانتخابية لم تسجل حادثة طائفية واحدة ، بل كان الصراع سياسيا أكثر من تجلياته الدينية.
وعلى سبيل المثال فأن الصراع المسيحي –المسيحي كان على أشده بين قائمة الكتلة في شمال المنيا وقائمة حزب الحرية، وبالمثل كان الصراع الاكثر سخونة بين قوائم الحرية والعدالة والنور والوسط.
في جنوب المنيا صوت عشرات الآلاف من الأقباط لقوائم الكتلة والوفد، رغم أنهم يعلمون أن من سوف ينجح منهم مسلمين، وفي شمال المنيا صوت عشرات الآلاف من المسلمين بما في ذلك الإخوان لحزب الحرية والعدالة..
وعلى الجانب الإسلامي ظهرت مقولات مثل ” الولاية الصغرى” ( حكم مصر والولاية العظمى ” الخلافة” وأن الصراع بين الإخوان والسلفيين ليس على ” الولاية الصغرى” بل على منهجية إدارة الولاية العظمى بين المنهج الوهابي السعودي ، والمنهج الوسطي الأزهري الشريف، وتحت نظريات التطور يدور الصراع على الأزهر بين السلفيين والإخوان .. أكثر من صراعهما على البرلمان ، وكيف أن فضيلة شيخ الأزهرمعتمدا على ما تبقى من واسطية يطرح مقتراحاته ووثائقه ، لحماية المشيخة فقهيا من ديموقراطية الاحتشاد المذهبي التي قد تأتي بشيخ للأزهر يعكس هذه الصراعات ، عبر اغلبية عددية وليس بفقه وعلم وسطي ، كما ان هناك مفاهيم اخرى كثيرة سوف تتبدل عبر القطيعة المعرفية والمفهومية التي سوف تحدث مثل (سيادة الدولة، دول الجوار، فقه الاقليات ) كل ذلك سوف يتم اعادة تشكيله وفق قواعد العولمة الدينية الاسلامية الجديدة ، تلك العولمة التي سوف تبدأ مع انتهاء الحرب الدينية العالمية الباردة ، وانتهاء عصر الاسلاما فوبيا ، حينذاك سوف يشهد العالم عولمة دينية ( اسلامسيحية) يتحالف فيها اليمين الديني الامريكي الاسلامي والمسيحي، وتنشط ماكينة الصراعات المسلحة المذهبية ، وفي مصر سوف تشهد الحركة السلفية صدامات عنيفة مع بعضها البعض خاصة مع حزب النور السلفي، وينتهي عصر اليسار التقليدي ، ويتقدم يسار ذو مرجعية دينية وفق التقسيم الدولي الجديد للعمل ، وتؤثر الاغلبية الدينية السياسية المسيحية على مفاهيم الليبرالية المصرية ، وتنتقل مركز المسيحية السياسية من المهجر إلى مصر ، حيث يلاحظ ان حزب (الحياة) بزعامة مايكل منير له تواجد ملحوظ ومؤثر في المنيا ، ويضم في صفوفه بعض المواطنين المصريين المسلميين ، وهكذا فالمنيا محافظة عظمى ، تضم كافة الاحزاب السياسية الرئيسية في مصر ، وتؤسس لما اسميناه المسيحية السياسية.
والله اعلم
إ س