لا مفر من إعادة النظر في تاريخ علاقة الأقباط بالمسلمين حتي نستطيع أن نتخطي بعض المشاكل التي صارت جزءا أساسيا من حياتنا فالحقيقة ليست حكرا علي أحد وفي غياب الموضوعية تندفع الأكاذيب والأساطير والمفتريات لتملأ عقولنا…فأمة بلا ذاكرة هي بالضرورة أمة بلا رؤية…الذاكرة هي ملف الماضي والرؤية هي ملف المستقبل, ويربط بينهما مسار الحاضر بكل ما له وما عليه, وإذا كان التاريخ هو الماضي, إذن فالتاريخ ليس مهما, لكن التاريخ هو الحاضر. التاريخ هو أنا وأنت, نحن جميعا أداة فاعلة في صنع هذا التاريخ وصياغته نحن فصل من مسرحية التاريخ..
بداية فإنه من موضوعات الساعة في مصر والشغل الشاغل لكثير من أهلها سواء من المسيحيين أو المسلمين المحبين لوطنهم الراغبين في رفعة شأنه, المؤمنين بأنه لاتقدم ولا رقي لمصر ما لم يتحد عنصرا الأمة, وهما في الحقيقة متحدان لايفرقهما إلا الوشاية ومحاولة الوقيعة بينهما, بدليل أنه عند وجود خطر داهم يمس سلامة الوطن لا تجد إنسانا يفكر في هذا الأمر, وكيف يفكر فيه وهو يري يد الفساد والظلم لا تفرق في العدوان بين أبناء الوطن مسلم ومسيحي لكل يواجهون العدو للقضاء عليه…هذا هو الشعور العام بين أفراد الشعب المصري في أوقات الشدة. تناول هذا الفكر الكاتب فكري أندراوس في كتابهالمسلمون والأقباط في التاريخ الصادر عن دار الثقافة الجديدة.
جاء الكتاب في ثلاثة عشر فصلا رئيسيا هي: دخول المسيحية لمصر, دخول الإسلام لمصر,الدولة الأموية والدولة العباسية, زمن الحكومات المستقلة(ويعني بها الدولة الطولونية, الأيوبية, الفاطمية, الأخشيدية) ثم يأتي إلي دولة المماليك, الدولة العثمانية دخول الفرنسيين إلي مصر, ثم زمن محمد علي وحتي عصر إسماعيل باشا, زمن توفيق باشا والثورة العرابية ودخول الإنجليز للبلاد, يليها ثورة عام1919 وحتي ثورة 1952 بعد هذا مرحلة ما بعد ثورة عام1952 وحتي وقتنا المعاصر, ثم تأتي العلاقة بين الآخر وتغير العقل.
يبدأ المؤلف حديثه في مقدمة الكتاب عما حدث في مصر بعد هزيمة 1967 حين كان كل مصري في هذا الوقت يشعر بمرارة في فمه لايعرف لها سببا واضحا وإن كان السبب في الحقيقة معروفا وهو إحساس المصري أنه مستعمر من إسرائيل أصغر دولة في العالم, وهو إحساس مرير جدا- لم يكن إحساسنا كمواطنين مصريين يوم كنا مستعمرين من إنجلترا سيدة العالم في هذا الوقت التي كانت تستعمر نصف بلاد الدنيا, أما اليوم فإن إحساس المهانة شديد, بل قل هو أشد من أن يحتمل, وإذا كان الشعب المصري انتصر فعلا في حرب عام1973 فليس ذلك بسبب السلاح والعتاد بل كان السبب الأصلي هو عزيمة الشباب والرجال آنذاك الذين كانت الدافع الأول لهم علي إحراز النصر علي الشعور بهذا الإحساس بالذل والعار والمهانة…
كانت حرب 1967 نقطة محورية فاصلة في تاريخنا الحديث. قبل تلك الحرب لم تكن هناك مشاكل تذكر بين الأقباط والمسلمين, وكانت هناك حكومة وطنية قوية يساندها برنامج وطني لاقي التأييد العام من كل أفراد الشعب أما بعد هزيمة سنة 1967 ووضوح فشل بعض نواحي النظام الحاكم بالإضافة إلي حدوث بعض التغييرات الإقليمية والعالمية التي تركت آثارها السلبية علي مصر كان من بعض نتائج ذلك أن هزيمة 1967 هزت الكيان المصري في مجمله ومازالت الهزيمة في حد ذاتها قد لا تمثل الخطر الأكبر حيث أن الدول تستطيع إن أرادت أن تحقق النصر بمعالجة الأسباب الحقيقية للهزيمة, ومصر في إمكانها ذلك(لقد قال عزيز صدقي رئيس الوزراء السابق ورائد الصناعة المصرية الحديثة إن مصر إن أرادت فعلت) لكن ماهي إرادة مصر الحقيقية الآن؟ لقد خشي من لهم رؤية مستقبلية من أمثال المستشار طارق البشري أن تلك الهزيمة إن لم تعالج أسبابها قد تترك ظلالها علي قوة التماسك في المجتمع المصري وقد تفتت صلابته, للأسف أن بعضا من ذلك قد حدث فعلا. بدأ الوطن يتحول من كيان واحد متماسك إلي عدة جزر منعزلة وضللنا الطريق حتي صار من السهل جدا اهتزاز الوطن بأكمله لمجرد حدوث حادث ديني معين من أمثال اعتناق شخص ما دينا غير دينه, فيثور الكثيرون ثم تهدأ العاصفة دون أن نحل المشكلة من الجذور وبشكل قاطع أو أن نتعمق في البحث عن أسباب المشكلة الحقيقية, التي قد يكون من أهم أسبابها الفعلية الخوف والقلق اللذان أصحبنا نعيش فيهما. لماذا يعيش بعض الأقباط هذا الخوف, فيخشي الكثيرون منهم أن يطردهم المسلمون من مصر؟ لقد تزايد هذا الخوف بعد الازدياد في المد الإسلامي السياسي الذي حدث بعد نكسة عام1967 وفي وقتنا الحالي يخشي الأقباط من تنفيذ مبادئ الشريعة الإسلامية عليهم؟
يعتقد غالي شكري في كتابه:الأقباط في وطن متغير الصادر عن الأهالي سنة1990 أن النقص الثقافي والتشوه الذي يصيب البنية الذهنية يأتي في مقدمة الأسباب التي تؤدي إلي الاحتقان الطائفي الذي نراه ليس في مصر حاليا فقط بل هو موجود في محيطنا العربي بوجه عام, هذه الثغرات الفكرية جميعا أو الجزء المتغاضي عنه أو المنسي من تاريخنا القومي يكمن وراء الخوف الزائد لدي البعض, قد يكون ذلك بصورة أكبر وأعمق لدي الأقباط حيث إن الأقليات عموما هي الأكثر شعورا بالخطر, يدفعها لذلك عزيزة الاستمرار وحب البقاء, خصوصا في ظل وجود رؤي مختلفة ومتباعدة عما يعنيه الإسلام السياسي وتنفيذ مبادئ الشريعة الإسلامية…
مازال هذا الجزء المفقود من تاريخنا والذي أشار إليه غالي شكري موجودا في العقل الباطن بصورة ما, يسترجع عند الشعور بالخطر.
يقول رشدي سعيد في حوار كان أجراه معه حمدي رزق في جريدة الدستور في فبراير سنة1998 إنه بعد حرب عام 1967 بدأت بعض قيادات الدولة تنهج اتجاها دينيا صرف لأسباب سياسية حدث هذا علي وجه التحديد, مع بداية رئاسة الرئيس الراحل أنور السادات للدولة أصبحت هناك مزايدات بين بعض المتطرفين إسلاميا وبعض رجال قيادات الدولة السياسيين أيهما أكثر تأسلما, وأصبح هناك خوف كبير بين بعض المسلمين من شريحة الأقباط, جاء هذا نتيجة تشويه إعلامي أو جهل بالوقائع أو بحقيقة التاريخ. منها علي سبيل المثال أن الأقباط أغنياء ويحاولون دائما العمل علي إفقار المسلمين! (إن الأقباط يحاولون إعادة مصر دولة قبطية كما كانت في الأساس قبطية وذلك بمساعدات خارجية وأجنبية!!) , هذا بالإضافة إلي بعض الشائعات والمعلومات المغرضة تماما من قبيل(ميليشيا قبطية), (الأسلحة التي تملأ الأديرة), الاعتبار الدائم بأن(هؤلاء الأقباط غرباء عنا…ماذا يفعلون في مصر؟) ومن ناحية أخري هناك من يربط بين المسيحية المصرية والشرقية عموما, وبين مسيحية أوربا الاستعمارية التي بدأت بالحروب الصليبة وطرد المسلمين من الأندلس. إن خلق إسرائيل ما هو إلا حروب صليبية جديدة وإن كانت أخطر بكثير من الحروب السابقة( كل ذلك هو ما يثير خوف المسلمين من الأقباط أو من المسيحيين بشكل عام دون تمييز بين المسيحية الشرقية ومثيلتها الغربية…ذلك الخوف غير الحقيقي ينم عن جهل ويجب أن يزول, وقال فهمي هويدي في مؤلفهمواطنون لا ذميون الصادر سنة1958 عن دار الشروق:إننا بإزاء موقف يتهدد المسلمين وغير المسلمين, الاستسلام له سوف يقود الجميع إلي قاع اليم, والسكوت عليه هو بمثابة اشتراك ومساهمة فعالة في الجريمة يقترب من التواطؤ والتستر عليها, وليس أمامنا إذا أردنا لأنفسنا البقاء واستمرارا إلا أن نستجمع القوي, ونتشبت بما تبقي من خير وعقل لدي هذه الأمة, لنثبت ونقاوم ونمسك بالزمام قبل أن ينفلت.
ما هوية الشعب المصري الآن؟ وهل هي للوطن أم للدين؟قد يبدو هذا التساؤل سخيفا حيث من المفترض أن يتلاقي الوطن مع الدين حتي أن اختلفت الأديان. قارن جلال أمين في مؤلفهمصر والمصريون في عهد مبارك بين ماحدث للطبقة الوسطي في مصر في النصف الأول من القرن الماضي, وبين ما حدث إبان النصف الثاني من القرن وحتي الآن, لقد كان الشعور الديني في النصف الأول من القرن علي وفاق تام مع الشعور بالانتماء الوطني, بينما نجد الآن شيئا يشبه التنافر أو حتي القطيعة بين الانتماء الديني والانتماء للوطن, وكأن الولاء للوطن أصبح من نصيب العلمانيين أو المدنيين(أو بعضهم) لقد كانت الطبقة الوسطي في الماضي أكثر عقلانية وأقل تمسكا بالمظاهر منه بجوهر الدين. كان من الممكن أن يجتمع شعور ديني قوي مع فهم عقلاني للحياة, ويستنتج جلال أمين أن التغير الذي حدث في طبيعة الخطاب الديني المعاصر ساعد علي وجود شقاق بين الولاء للدين والوطن, وطبعا ليزيد الانشقاق بين المسيحيين والمسلمين, لقد أفرز الخطاب الديني المعاصر مناخا يساعد علي انتشار الفساد بدلا من أن يضيق نطاقه, وأصبح من السهل أن يجتمع القيام بعمل فاسد مع التمسك بشكليات الدين. لقد دخل في الخطاب الديني تيار اللاعقلاني يهتم بالمعجزات والخرافات, ويعلي من شأن الطقوس علي حساب الأخلاق والمثل, ويجعل بعض المسلمين علي استعداد كامل للتنكيل بالأقباط بلا سبب ويشبع في الأقباط شعورا بالتوجس والخوف بسبب وبلا سبب…
توتر العلاقات بين الأقباط والمسلمين يجب ألا يكون مشكلة تعاني منها الأمة المصرية, فهناك مشاكل أهم من ذلك بكثير وتحتاج لتكاتف وترابط كل طاقات المجتمع المصري معا يدا واحدة, إن علاقة الأقباط والمسلمين المتعثرة ما هي إلا إحدي مشاكل مصر, إن مصر تغلي في وقتنا الحالي بالعديد من الأزمات والمشكلات, إن مشاكلنا الأخري هي غياب الديموقراطية والعدل الحقيقي, غياب المؤسسات الرسمية المستقلة, سوء التعليم بجميع فروعه وألوانه. بل قد يكون أهمها التعليم الديني, الإعلام السيئ الموجه وخصوصا ما يوصف بأنه إعلام قومي, هذا إلي جانب قوي الفساد التي لاتزال تلقي بظلالها علي البلاد حتي الآن, القهر البوليسي من جانب قوي الشرطة, عدم قدرة الدولة علي خلق فرص اقتصادية لتوفير العمالة للكثيرين تآكل الطبقة الوسطي من المجتمع المصري, الانحدار الخلقي رغم مظاهر الدين الكثيرة والكاذبة وغير ذلك من المعوقات التي تواجه حركة التنمية في المجتمع المصري بشكل عام, بعد ذلك تأتي مشاكل الأقباط والمسلمين. إننا لو وجدنا حلولا قاطعة لكافة مشاكل المسلمين الحقيقية لاختفت مشاكل الأقباط.