إننا لم نعرف فى تاريخ الأدب كله أن رواية هزت عقيدة سياسية أو اجتماعية، فما بالنا بالعقيدة الدينية، لقد صدرت عشرات الروايات لضرب العقيدة السياسية للاتحاد السوفييتى، ومع ذلك فحين انهار الاتحاد كان لأسباب داخلية عميقة، ولأن عناصر الانهيار كانت بداخل تلك العقيدة السياسية وليس بسبب الروايات التى صدرت لتندد بها، لقد عاشت مصر على أعصابها حوالى شهر ونصف الشهر بسبب أزمة افتعالها الراغبون فى الإثارة وتحريك الفتن، حيث وقعت الأزمة بسبب رواية ” حيدر حيدر ” وليمة لأعشاب البحر، وكان يمكن ألا تحدث تلك الأزمة على الإطلاق حتى فى ظل الاعتراض على الرواية ورفض نشرها، ومن أجل تلك القضية أصدر الكاتب ” حلمى النمنم ” نائب رئيس الهيئة العامة للكتاب كتابه ” وليمة للإرهاب الدينى ” كدراسة موضوعية لرواية ” وليمة لأعشاب البحر” تنفى عنها تهمة الإلحاد والمساس بالذات الإلهية، وتؤكد أنها تنتصر لقيم الإسلام فى الاستقلال والعدالة والتحرر، حيث تعرض الدراسة وتحلل وثائق المعركة التى شغلت الرأى العام داخل مصر وخارجها، وانتهت بخسارة لجميع الأطراف. ولعل عرض هذا الكتاب مفيد في الوقت الحالي، حيث تشتد مرة أخرى قضايا تمس حرية الرأي والتعبير، وذلك بعد تقديم طلبات من جماعة “محامون بلا قيود” لمصادرة كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي أعيد طباعته ضمن سلسلة الذخائر بالهيئة العامة لقصور الثقافة.
ويذكر الكتاب أن الرواية صدرت فى نوفمبر 1999 وخلال أسبوعين جمعت من الموزعين وأودعت المخازن وانتهى الأمر، ولكن بعد أكثر من أربعة أشهر، كان هناك من توقف عند الرواية متهماً إياها باحتواء عبارات تعد مساس بالذات الألهية والتطاول على القرآن الكريم، وكان يمكن التعامل مع تلك الشكوك والاتهامات ببلاغ إلى النيابة العامة لتتولى هى التحقيق،
وتأكيد الاتهام أو نفيه، لكن دعاة التحريض أرادوها فرصة لإثبات السيطرة على الشارع المصرى وتحريكه، وتصفية الحسابات مع الحكومة إلى جانب الانتقام من المثقفين العلمانيين الذين لعبوا دوراحاسما فى معركة الإرهاب طوال سنوات التسعينيات.
عنق نجيب محفوظ .. والسكين مغروز
ويشير الكتاب إلى أن المثقفين شعروا بأنهم هم المستهدفون والمقصود تشويههم وتقديمهم للرأى العام على أنهم مجموعة من الملحدين والمستهزئين بالإسلام، وأن هذا تمهيدا لاجتزاز رقابهم، ودماء فرج فودة ليست بعيدة، وعنق نجيب محفوظ والسكين مغروز فيه لم ينس بعد، والرصاصات التى أطلقت على مكرم محمد أحمد لم تغب عن ذاكرتهم، ونفى د. نصر حامد أبو زيد مازال قائماً، لذلك كله وقفوا يدافعون عن الرواية وعن حق الكاتب فى التعبير، غير مستعدين للتنازل، لأن معنى ذلك الإقرار بدعاوى الطرف الآخر أى أنهم مجموعة من الكفار الذين يستحقون التصفية الجسدية .
ويوضح الكتاب أننا لو تأملنا النتائج الحقيقية فسوف نجد أن الجميع خرج خاسراً من تلك الأزمة، فالمثقفون شوهت صورتهم أمام الرأى العام وقدموا باعتبارهم مجموعة من دعاة الانحلال والسخرية بالدين، أما الذين آثاروا الأزمة فقد أغلقت الجريدة الحزبية، وجمد نشاط الحزب فى وقت بالغ الحرج لهم، حيث كانوا على أهبة الاستعداد لخوض الانتخابات، كما أن الحكومة هى الأخرى خسرت كثيرا، فقد بدت أطرافها متضاربة ومتناقضة عاجزة عن أن تدير الأزمة، لقد أصدرت وزارة الثقافة الرواية، وإذا بالأزهر وهو مؤسسة من مؤسسات الدولة يحكم بكفرها، والخسارة الأخيرة هى التى خسرتها مصر، حيث اهتزت سمعتها الثقافية وطالب البعض بالنظر فى مسألة مركزية الثقافة العربية وريادتها فى القاهرة .
“الملل والنحل “.. يستعرض سائر الديانات
ويضيف الكتاب أن من يراجع كتب التراث العربى والإسلامى سوف يصاب بالذهول من مدى الحرية والجسارة التى تمتع بها كبار المفكرين والكتاب العرب قياسا على ما يحدث اليوم، لقد اتهمت الرواية بسبب شخصية “فلة بو عناب”، واعتبرت الرواية دعوة للفجور والفحش، ولكن أين فلة من عشرات الجوارى اللاتى وردن فى موسوعة الأصفهانى الكبرى ” الأغانى”، بل وأين كل هذا من رسالة الجاحظ فى الجوارى والغلمان، واللافت للنظر أن كبار الفقهاء ما كانوا يتحرجون من وضع كتب فى مثل هذه الأمور، لقد اتهمت الرواية لأن أحد أبطالها قال كلاما بذيئا فى حق الدين، واعتبر صاحبها لذلك منكرا للمعلوم من الدين بالضرورة، ولكن ماذا عن الشهر ستانى صاحب ” الملل والنحل “، والذى استعرض فى كتابه هذا سائر الديانات والمذاهب فى عصره والعصور السابقة والتى تعادى وتضاد العقيدة الإسلامية، ولم يحاكم الشهر ستانى، ولم يهدر دمه، ولم يظهر فى عصره من يصرخ ” من يبايعنى على الدم ” .
الثقافة الإسلامية .. والتسلط العثمانى
ويحلل الكتاب الوضع القائم بأننا بإزاء تيارات نشأت لا بهدف إصلاح مجتمعها ورسالة تجديد الفكر والفقه الإسلامى، ولا تنقية الثقافة الإسلامية مما علق بها من جمود قرون الاستبداد والتسلط العثمانى، بل وضعوا هدفا واحدا لهم هو الاستيلاء على السلطة فى تلك البلدان، ولما كان ذلك الطريق مسدوداً أمامهم لذا فأنهم لم يجدوا سوى الجهاد فى فئتين، وهما المرأة والمثقفون، حيث دق نفير الجهاد ضد حرية المرأة وحقوقها، والسبب يرجع إلى انعقاد مؤتمر تحرير المرأة بمناسبة مرور قرن من الزمان على صدور كتاب قاسم أمين، سوف يكون من الصعب اقتياد النساء إلى المحاكم والسجون، لذا لا يكتفون بالنضال النظرى ضدهن، ومحاولة تعويق أى حقوق عامة يمكن أن تقرر للمرأة مثل قانون تبسيط إجراءات الأحوال الشخصية، أما فى حالة المثقفين فسوف يكون متاحا الإمساك بكتاب ومحاكمة صاحبه، أن الذين آثاروا هذه المعركة دخلوها ليس بهدف الإصلاح والتصحيح ولا بغرض البناء والتجديد، ولكن بهدف الإزاحة والاستقصاء، فكان التكفير وكان إهدار الدم، وكان التهديد الصريح بالقت، ووجد الطرف الآخر نفسه يدافع ليس فقط عن حقه وحريته فى التعبير، بل يدافع عن حياته وعن وجوده، وانتهت المعركة وكل طرف جريح مهزوم، ومع الهزيمة والجراح تكون الثأرات كامنة فى النفوس والضمائر تتحين الفرص للظهور والإثبات، ومن ثم التعويض عما فات، لذا لن تكون الوليمة هى الأخيرة، بل ستتلوها ولائم أخرى.