ما كان للبلدان العربية أن تتبني الدولة الدستورية لولا الاستعمار البريطاني الذي تمكن من خلال وجوده الطويل في المنطقة العربية من فرض مفاهيم وقيم الحضارة الغربية, سواء فيما يتعلق بالدستور أو حرية الصحافة أو النظام البرلماني. وقد اقتدت كثير من الدول العربية بالنظام البرلماني البريطاني كنظام سياسي. وعلي مستوي الخليج لم يتبن هذا النظام سوي الكويت والبحرين. وأثبتت التجربة السياسية للنظام الديموقراطي للكويت والبحرين مدي هشاشة هذا النظام, وعجزه عن تلبية الاستحقاقات السياسية اللازمة له. بمعني أن النظام الديموقراطي الذي تم تبنيه قد اختلف تماما عن الأصل الموجود في بريطانيا, وبالتالي ظهر لدينا نظام برلماني هجين لا أصل له بسبب خصوصية المجتمع الخليجي.
في المجتمع الخليجي لدينا مرتكزات اجتماعية ودينية لا يمكن تجاوزها في الحياة, الأمر الذي فرض علي واضعي الدستور أن يحسبوا حسابا للتاريخ الاجتماعي لهذه المرتكزات والتي تستمد شرعيتها التاريخية والاجتماعية من طبيعة التاريخ الاجتماعي ذاته للمجتمع الخليجي, وحساب آخر للدين الذي لا يمكن تجاهله كما هو الحال في الدول الغربية التي فصلت الدين عن الدولة. في مقابل ذلك كان لا بد من تضمين الدين في الدستور المكتوب بطريقة أدت إلي ظهور دستور مدني يعترف بدور رئيسي للدين في بعض نصوص الدستور. بل إن الدستور نفسه, كما الحال في الكويت يضع الدين في مرتبة أعلي من الدولة المدنية, مع الاعتبار بقانون الأحوال الشخصية الديني في كل نصوصه. وبذلك أصبحت لدينا نصوص علمانية مثل: ##نظام الحكم ديموقراطي, والسيادة فيه للأمة##, مقابل نصوص دينية مثل: ##دين الدولة الإسلام##, و##الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع##!
في ظل هذا التضاد بين الدين والدولة, كان لا بد من وصول المجتمع إلي نقطة تقاطع بين الاثنين, خاصة مع هيمنة فكر الجماعات الدينية التي استطاعت الوصول إلي البرلمان, حيث أخذت الأصوات تتعالي من النواب الإسلاميين لأسلمة القوانين الوضعية, بل وحتي الدعوة لتغيير بعض نصوص الدستور ذات المضمون العلماني, وذلك حتي تتسق النصوص الدستورية مع دين الدولة.
إزاء هذه التطورات الدينية المضادة لمفهوم الدولة الدستورية, سألني أحد الصحفيين الأجانب عن سبب ميل الكويتيين إلي الدولة الدينية رغم أن ذلك لم يكن مطروحا في الستينيات يوم وضع الدستور؟ وكانت الإجابة بسيطة. في الستينيات كانت الهيمنة للفكر القومي الليبرالي, واليوم أصبحت الهيمنة للفكر الديني. وانظر إلي عدد النواب الليبراليين في البرلمان اليوم, مقارنة بالنواب الإسلاميين, ويمكن أن نضيف إليهم أيضا النواب القبليين المؤيدين للإسلاميين. والدستور الكويتي لم يكن قاطعا في نصوصه فيما يتصل بعلمانية الدولة أو حتي مدنيتها بالفصل بين الدين والدولة. وحين تصبح النصوص الدستورية حمالة أوجه, يحق لكل فريق أن يتلاعب بالنصوص لما هو في صالحه. ولن تنتهي هذه المشكلة حتي يؤمن الكويتيون بأن الدولة الدستورية لا تقوم إلا علي فصل الدين عن الدولة أولا وقبل كل شيء, وهذا أمر غير وارد الآن. لذلك ستظل المشكلة قائمة حتي يقرر الكويتيون تغيير الدستور. وهذا بالطبع لن يحصل تفاديا للفوضي التشريعية المحتملة.
مما سبق يتبين أن التجربة الديموقراطية لا يمكن أن تنبت بيسر وسهولة إلا في مناخ اجتماعي تاريخي محدد, كالتجربة الغربية. وقد تبين أن جميع دول العالم الثالث التي أخذت بالتجربة البريطانية قد صادفت فشلا ذريعا.
أكاديمي كويتي