الأنباء الواردة من مصر ليست سارة. فبعد مرور أكثر من ستة أشهر علي الثورة, لم يعد المحتجون في ##ميدان التحرير## يتظاهرون ضد نظام مبارك بل ضد ممارسات الحكم غير الديمقراطية للمؤسسة العسكرية. وفي الوقت نفسه, إن الاقتصاد آخذ في التدهور كما أن الوضع الأمني — في سيناء ووادي النيل — لا يزال غير مؤكد. وفوق كل ذلك, تعرضت السفارة الإسرائيلية في القاهرة إلي الاجتياح, كما يدعو كل من المصريين الليبراليين والإسلاميين علي حد سواء إلي مراجعة معاهدة ##كامب ديفيد## للسلام إن لم يكن إلغائها. ويبدو أن ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## المسؤول عن إدارة المرحلة الانتقالية مرتبك ومتخبط.
اعتادت واشنطن علي الاتصال بحسني مبارك عند ظهور المشاكل. وبصرف النظر عن استبداديته الإشكالية في وطنه, كانت فترة حكمه التي دامت 30 عاما عصرا ذهبيا للتعاون الأمريكي المصري. لكن منذ ذلك الحين, فإن ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة##– الذي يضم كبار ضباط القوات المسلحة المصرية الأكثر قبولا للولايات المتحدة – حل محل مبارك. ومع ذلك, فبعد ثلاثين عاما من التمرينات المشتركة, والتدريب علي نطاق الدولة لفيلق الضباط, ومنح مساعدة عسكرية أمريكية تزيد عن 35 مليار دولار, لا يزال مقدار النفوذ الذي تحظي به الولايات المتحدة لدي المؤسسة العسكرية غير واضح. وفي الوقت الراهن, يبدو أن نفوذ الولايات المتحدة علي ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## هو في أحسن الأحوال متواضع.
وإذا وضعنا جانبا إدعاءات البيت الأبيض عن مسؤولية ما حدث فإن تحلي الجيش بضبط النفس أثناء فترة الثورة كان قرارا عمليا: فقد كان الجنرالات يخشون من عدم اتباع المجندين لأوامرهم بإطلاق النار علي المدنيين. وعلي نحو مماثل, إن جهود ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## لتهدئة التوترات الأخيرة علي طول الحدود الإسرائيلية في أعقاب سلسلة من الحوادث الدموية, لم تكن نتيجة إجراء مكالمات هاتفية من قبل وزارة الدفاع الأمريكية, لكنها دلالة علي ميل الجيش للحفاظ علي الذات.
إن المحاولات الفاشلة للإدارة الأمريكية لإثناء قيادة المؤسسة العسكرية عن الالتزام بتسلسل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وصياغة الدستور هي الأمور الأكثر دلالة علي محدودية نفوذ واشنطن في القاهرة. ووفقا لما هو مقرر حاليا من قبل ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## – إجراء انتخابات تشريعية تعقبها صياغة الدستور, وبعد ذلك التصويت في الانتخابات الرئاسية – من المؤكد أن تكون للإسلاميين في مصر اليد العليا في صياغة الدستور الجديد (الذي يفترض أن يكون متعاطفا مع رغبات الإسلاميين).
وفي حين أن المسئولين المصريين يقدرون بوضوح فوائد العلاقات العسكرية مع واشنطن, إلا أن النفوذ الناجم عن هذه العلاقة مبالغ فيه. ولتوضيح الأمور ببساطة, فإن المنحة الأمريكية البالغة 1.3 مليار دولار أمريكي في السنة هي ليست كما كانت عليه. فعندما بدأ تدفق المساعدات الأمريكية في عام 1981, كانت المنحة العسكرية السنوية تساوي أكثر من 5 بالمائة من ##الناتج المحلي الإجمالي## للدولة. وقد أصبحت تلك المنحة أقل من ربع بالمائة في عام .2010 ونظرا لمبلغ المساعدات الضئيل نسبيا, من غير المرجح أن تنجح المحاولات الأمريكية لربط هذه المساعدات بالقرارات السياسية الصعبة. وسوف يصبح نفوذ واشنطن في القاهرة حتي أكثر ضعفا عندما يعود الجيش في النهاية إلي ثكناته.
ويعود ذلك لأن مكانة واشنطن مع المدنيين المصريين ليس أفضل بكثير. ففي ضوء السياسات الشعبوية في مرحلة ما بعد الثورة في مصر – حيث تستمد الشرعية إلي حد بعيد من عدم التشبه بمبارك وينظر إلي العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة بأنها تعتبر عائقا – من غير المرجح أن تتغير هذه الديناميات في أي وقت قريب. وفي حين لا تأتي كراهية الإخوان المسلمين وأبناء عمومتهم السلفيين المتشددين, للولايات المتحدة كمفاجأة كبيرة, إلا أن انضمام ##الليبراليين## غير الإسلاميين والمؤيدين للديموقراطية إلي الاتجاهات نفسها كان تطورا غريبا, إن لم يكن غير متوقع.
ولننظر إلي أيمن نور, المحامي المؤيد للديموقراطية الذي تملكته الشجاعة لتحدي مبارك في الانتخابات الرئاسية عام .2005 خسر نور الانتخابات, وتم إدانته – بشكل احتيالي – بالنصب والتزوير مما دفع الرئيس بوش إلي الإشارة إلي هذه النقطة في محادثة له مع مبارك. واليوم, وبعد ثلاث سنوات من خروجه من السجن, يؤيد نور توثيق العلاقات المصرية مع إيران — عدو واشنطن في المنطقة. والأسوأ من ذلك, أن نور والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسي الذي يأتي في طليعة المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية, قد انضما إلي السلفيين في المطالبة بالإفراج عن عالم الدين الضرير الشيخ عمر عبد الرحمن الذي أدين بتخطيط تفجير مركز التجارة العالمي في عام 1993 والموجود حاليا في سجن في الولايات المتحدة.
كما أن الحكومة معادية لواشنطن. ففي أواخر يوليو – وبأخذنا نموذج من الصحافة الرسمية المناهضة للولايات المتحدة في عهد مبارك – نشرت مجلة ##أكتوبر## المملوكة للدولة قصة علي غلافها تتعلق بالمبعوث الأمريكي الجديد إلي القاهرة تحت عنوان ##سفير من الجحيم##. وقبل ذلك بشهر واحد فقط, رفضت القاهرة قرضا منخفض الفائدة من ##صندوق النقد الدولي## بقيمة 3 مليارات دولار بدون أي شروط مرفقة, وهو قرار يعتمد علي ما يبدو علي السخط الشعبي القائم تجاه الولايات المتحدة. ووفق استطلاع أجرته مؤسسة ##جالوب## في وقت سابق من هذا العام, يعارض 75 بالمائة من المصريين قبول مساعدات اقتصادية أمريكية.
ومما لا يدعو للدهشة أن هذه المشاعر المناهضة للولايات المتحدة تنتقل كذلك إلي اتفاقية ##كامب ديفيد## للسلام بين مصر وإسرائيل التي تمت بوساطة أمريكية, وهي اتفاقية يقول عمرو موسي ##إنها قد انتهت##. وحتي المرشح المحتمل للرئاسة الأكثر ##ليبرالية##, محمد البرادعي, يقول إن علي مصر النظر في مسألة خوض حرب مع إسرائيل لحماية الفلسطينيين في غزة.
وعلي الرغم من تكريس أكثر من 30 عاما و50 مليار دولار أمريكي لتأمين السلام وبناء علاقة ثنائية قوية, تجد واشنطن نفسها اليوم خلال هذه اللحظة الحرجة من الفترة الانتقالية دون نفوذ يذكر في مصر. وفي الوقت الحالي, ليس هناك خطرا علي وصول الولايات المتحدة إلي القاعدة العسكرية في ##غرب القاهرة##, وعلي الأولوية التي يحظي بها مرور السفن الحربية الأمريكية عبر قناة السويس, والجولات العسكرية الروتينية في المجال الجوي المصري. ورغم اجتياح السفارة الإسرائيلية في القاهرة فإن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل هي الأخري غير معرضة للخطر. ومع ذلك, فإذا لم يتم عكس المسار الحالي ولم تبدأ الحكومة المقبلة في مصر في تقدير العلاقة الثنائية بين البلدين, فقد تتعرض هذه المكتسبات الأمريكية قريبا إلي الخطر.
وفي المستقبل المنظور, من المرجح أن تعمل الولايات المتحدة دون مستوي ثقلها في القاهرة. ونظرا لتقلص نفوذها, سيكون من الأفضل لواشنطن أن تعمل علي حساب أولوياتها بحكمة.
ويكلي ستاندرد