تحتفل صاحبة الجلالة في العاشر من يونية كل عام بيوم الصحفي,وهو اليوم الذي شهد افتتاح النقابة بمقرها الحالي عام 1997,ولكفاح الرعيل الأول في سبيل خروج النقابة للنور,نحتفل بهم معكم كل عام,ونستعرض صفحة مطوية من تاريخهم,وإن ظلت الكلمات لا تحوي كل الكفاحات والنضالات لأصحاب القلم الجريء والثقافة التنويرية,وإن ظلت جدران النقابة تختزن بداخلها صورا من الكفاح والبطولات في سبيل إنشائها,إلا أنه علينا أن نخفف من أثقالها وتكديسها لدور روادها فننشد معها دور أبطالها.
كانت النقابة حلما يرواد كل من عمل بمهنة البحث عن المتاعب,وتبلورت الفكرة عام 1909 بعد ما شكل الصحفيون الأجانب الذين كانوا يعملون بمصر نقابات خاصة بهم,وحاولوا من خلالها استقطاب بعض الصحفيين المصريين للانضمام إليهم.
ورأي الصحفيون المصريون ضرورة إنشاء نقابة لتمثيلهم,وظهرت هذه الدعوة علي صفحاتالمؤيدثم تلتها الصحف الأخري,غير أن قلة أعداد الصحفيين آنذاك واتساع الفوارق بين فئاتهم عطلت نمو الفكرة,حتي اقتبسها المحامون وأنشأوا لأنفسهم نقابة عام 1912 وتعد هي أولي النقابات المهنية,بينما تأخر إنشاء نقابة الصحفيين وسائر النقابات الأخري المهنية ثلاثين عاما,تخللتها عدة تجمعات وروابط ضمت عددا من الصحفيين اتخذوا لأنفسهم عدة أسماء رابطة المحررين-رابطة أصحاب الصحف-نقابة الصحفيينوتعد تلك الروابط هي الإرهاصات الأولي التي مهدت لإنشاء النقابة,حيث كانوا يجتمعون غالبا بالدور العلوي لمقهي بار اللواء ,ورأوا حتمية وجود قانون ينظم كيانهم الصحفي,وتزعمهم محمود عزمي الذي واتته الفرصة عندما تولي علي ماهر الوزارة عام 1935 -عرفت بوزارة المائة يوم-فاستحدث وظيفة من وظائف معاوني رئيس الوزراء وهي وظيفة المستشار الصحفي واختير محمود عزمي لتولي هذا المنصب والذي لم يلبث أن اجتمع بعدد من الصحفيين وطرح عليهم فكرة إنشاء نقابة مهنية لهم.
وبعد إعداد التقارير اللازمة هبت الريح بما لاتشتهي السفن فأسقطت وزارة علي ماهر قبل أن تنظر المشروع المعد لإنشاء النقابة,وظل هذا المشروع تلتقطه الأيدي بين إدارات التشريع والبرلمان,حتي صدر أخيرا بعد كفاح مرير قانون إنشاء نقابة الصحفيين في مارس .1941
وانتقلت الاجتماعات من دار الأهرام إلي البلاغ ثم استأجروا غرفتين بعمارة إيموبليا,وتعد هي أول دار لنقابة الصحفيين وفيها انعقدت الجمعية العمومية التي أصدرت لائحة الاستخدام ولائحة الادخار واللائحة الداخلية,وأنشيء فيها أول ناد لنقابة الصحفيين,غير أن الأحلام ظلت متشوقة لإنشاء دار مستقلة رحبة تملكها النقابة,واعترضتها العوائق المادية إذ كان اشتراك العضو آنذاك جنيها واحدا لاغير,وكان عدد الأعضاء حوالي المائتين فقط,بل كانت أحوال الصحفيين وأجورهم في حالة يرثي لها.
أجور الصحفيين زمان:
كانت مرتبات رؤساء التحرير الكبار في الأهرام والمقطم تتراوح بين 32و50 جنيها,وتعد جريدة السياسة هي أول من رفعت الأجور وأعطت بدلا للصحفيين من أجل المظهر وتوفير عيشة كريمة لهم,حيث كان رئيس تحريرها الدكتور هيكل يتقاضي 100 جنيه وعلاوة قدرها عشرون جنيها نظير إشرافه علي العدد الأسبوعي,وكان هو صاحب أعلي أجر في ذلك الوقت وفي عام 1926 زار مصر أحد الصحفيين الأمريكيين وطلب من السلطات أن تتضمن زيارته اجتماعا مع بعض كبار الصحفيين المصريين,أحيل الطلب إلي أقطاب الصحافة,فرشحوا الدكتور هيكل باعتباره صاحب مرتب المائة وعشرين جنيها,وعند لقائهما سأل الصحفي الأمريكي هيكل عن أجور الصحفيين,وبصوت لايخلو من نغمة الفخر أجابه هيكلأجور الصحفيين في مصر قد ارتفعت إرتفاعا كبيرا…فأنا مثلا,وأنا لست أكبر صحفي ,أتقاضي مائة وعشرين جنيها في الشهر.
ولكن المفاجأة المذهلة تمثلت في نظرة الصحفي الأمريكي إلي هيكل فقد كانت نظرة رثاء وقال لهيالكم من صحفيين فقراء مساكين…لابد أن أصحاب الصحف يثرون علي حسابكم.
الحكومة والنقابة:
نتيجة لسوء الأحوال الاقتصادية لصاحبة الجلالة,تدخلت الحكومة وأعطت النقابة عام 1944 قطعة أرض بإيجار اسمي مقدارة قرش واحد في السنة لمدة تسعين عاما,غير أن قوات الاحتلال البريطاني كانت تشغل هذه الأرض تحت ظروف الحرب العالمية الثانية,فما إن وضعت الحرب أوزارها في مايو عام 1945 حتي وجهت النقابة إلي القيادة البريطانية طلبا بالجلاء عن قطعة الأرض التي تمتلكها في شارع ثروت,ويعد هذا هو أول مطالبة بالجلاء تتقدم بها النقابة.
وطالبت النقابة الحكومة بإعانة مالية للبناء,غير أن البرلمان منع الحكومة من تقديم أية إعانات لبناء الأندية…فأخذ أعضاء المجلس يترافعون في وجوب استثناء النقابات من هذا القرار,وجاهد حافظ محمود وقال:إننا لن نبني ناديا بل سنبني أول مؤسسة دعائية لاستقبال الصحفيين الأجانب,فتهلل وجه رئيس الوزراء آنذاك محمود فهمي النقراشي وطلب كتابة مذكرة توضح هذا المعني,وبالفعل حصل الصحفيون بهذه المذكرة علي تسعة وثلاثين ألف جنيه علي دفعات …وبنيت دار نقابة الصحفيين وتحدد يوم 31 مارس عام 1949 لافتتاحها بحضور الملك فاروق.
فاروق يغضب من الصحفيين:
حدث في أوائل مارس أن النقابة حجزت جناحا من المعرض الزراعي الصناعي,ووضع فيه أول نموذج لأول آلة طباعة استخدمتها الصحافة,ونموذج لمبني النقابة الجديد والذي قام بتصميمه المهندس الدكتور سيد كريم وتفنن في صنعه,وكان الملك فاروق مولعا بالاستيلاء علي التحف حتي أنه كان يوفد رسله سرا قبل الافتتاح ليأتوا له ببيان تفصيلي عن التحف الموجودة بالمبني الجديد.
وعرف الصحفي فكري أباظة خطة الملك في الاستيلاء علي التحف فتوجه مع حافظ محمود قبل يوم افتتاح المعرض,وأخفوا جميع المقتنيات النادرة,وسأل عنها الملك قبل الوصول إلي جناح نقابة الصحفيين وقال لفكري أباظةأين نموذج مبناكم يا فكري؟لقد سمعت أنه شيء جميل!!فلم يجد فكري أباظة ما يرد به,فغضب الملك وانصرف,وأناب عنه مستشاره الصحفي كريم ثابت ليفتتح النقابة,والذي أراد ترضية الملك فعندما قدم له سكرتير النقابة مصطفي القشاشي المقص الذهبي ليقص الشريط الأخضر عند افتتاح الدار,والذي تكلف آنذاك سبعين جنيها,قال كريم ثابت للقشاشي بعد قص الشريطإن التقاليد تقضي بإرسال هذا المقص في علبته المخملية الخضراء إلي القصر الملكي.فكانت النقابة آية في الجمال,لما تختزنه جدرانها من صور للنضال انعكست عليها,فزادت المكان وقارا وجلالا,حتي أنه عندما زارت مس طومسون رئيسة جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في أمريكا دار النقابة عقب افتتاحها لم تصدق أن هذا المبني أقيم بأيد وخامات مصرية,فكتبت عن المبني في المائة والعشرين جريدة التي كانت تنشر مقالاتها في وقت واحد.
ومازال التاريخ يحفظ بداخله العديد من الذكريات,وكل عام وصاحبة الجلالة في حرية ودفاع عن الكرامة الإنسانية.
المراجع:
0 المعارك في الصحافة والسياسة والفكر-حافظ محمود