وتتوالي الأحداث سريعا قبل أن يستطيع الإنسان أن يلتقط أنفاسه محاولا أن يفهم ما الذي يحدث بالضبط عشنا أياما وليالي في أحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية. وتأكدنا من أنه عمل إجرامي إرهابي استهدف المسيحيين, وحول الأحياء إلي شهداء, فنحن لا تستطيع أن نراهم أمواتا, إنهم ضحايا شهداء, ولكن الأيام لم تمهلنا, وفوجئنا بعمل إرهابي جديد حدث داخل قطار كان في طريقه إلي القاهرة, الضحايا في هذه الجريمة خمسة جرحي وشهيد واحد كلهم أقباط اختارهم المجرم بعد أن صعد إلي العربة التي تقلهم وتمشي إلي منتصف العربة وعاد إلي مقدمتها ليختار ضحاياه الموعودين بالعذاب, أخرج مسدسه الميري وأطلق الرصاص علي الآمنين الجالسين في أماكنهم واكتفي بما فعله بدم بارد وأعصاب لا تهتز إلي أن منعه أحد الأفراد من الاستمرار في الجريمة البشعة والمهزلة العجيبة.
مرة أخري بعد عدة أيام من حدوث الجريمة الأولي تلتها الأخري وكأن البلد ليس فيها من يستحق الموت إلا المسيحيين, وتبين أن الفاعل مريض نفسيا, كما جاءت التقارير الرسمية, كما أدلي بها المسئولون وكانت توصيفهم لها, ولكن الكثيرين رفضوا هذا التوصيف واستنكروه واحتجوا عليه بوقفة احتجاجية فليس من المعقول أو المقبول أنه كلما حدثت حادثة إجرامية يتضح أن فاعلها مختل عقليا, وإذا كان المجرم الذي فعل فعلته البشعة يعاني نفسيا فلابد أن نبحث عن أسباب معاناته النفسية, وكيف يسمح لمندوب شرطة بهذه الأوصاف الصحية وقد سبق له أن أقدم علي اعتداءات علي زميل له وعلي ضابط شرطة كيف نسمح له أن يتجول حرا طليقا بين الناس وكيف ظل سلاحه الميري معه ويحمله في جيبه, ويستطيع أن يخرجه في أي لحظة ويستخدمه لترويع الآمنين وقتلهم؟! كيف؟ وقد حدث بالفعل ما كان يجب أن يتوقعه المسئولون تبعا لحالته الصحية الحرجة؟!
أكاد أتصور هذا المجرم وهو في طفولته وسط أهله ثم بين جدران مدرسته, إنه بالطبع لم يسمع شيئا عن المسيحيين في بيته أو سمع عنهم ما يدفعه إلي كراهيتهم والتفنن في إذائهم باعتبارهم علي غير دينه وأنهم كفرة ومصيرهم النار يهلكون فيها, وهذا يتوقف علي ما سمعه من أسرته, أما في المدرسة, في سنوات الدراسة الأولي فإنه لم يسمع عن المسيحيين فالدولة تسقط تاريخ المرحلة القبطية من دراسة التاريخ وتعتبرها لم تكن ولم تجد ولا لزوم لها, وعليه فهو لا يعرف أن للأقباط وجودا, وأنه عرف شيئا فقد سمعه من مدرسة في حصص الدين التي ينفصل فيها المسيحي عن المسلم, ويكون لمدرس الدين حريته ما يقوله عن زميله المسيحي هل يطلب منه تجاهله ونبذه وكراهيته أو يكون مدرس ذو ضمير حي فيقول له إن زميله المسيحي إنه طفل زميل له وندله وعليه أن يحبه ويحترم ولا يسيئ إليه أو يؤذيه, الأمر متروك لضمير المدرس وللصدفة والظروف وقد تركنا ذلك للمدرسة ولمناهج الدرس ومدي شفافيتها واحترامها لعقول النشء.
سنوات وسنوات, عشرات السنين, بل مئات السنين تتم المطالبة بالاهتمام بالمدرسة واختيار مدرسين مؤهلين للتدريس للنشء الصغير وتنقية المناهج وحماية عقول الأطفال من بث أفكار غير منضبطة أو شأنهن تفسد أفكارهم وتصابهم في الكبر ولكن بلا جدوي, فالتعليم هو الأساس وهو البذرةالأولي التي تشكل العقل والتفكير.
أظن وبعض الظن ليس إثما أن فاعل جريمة القطار هو واحد من الذين شوه تفكيرهم ولوثت عقولهم فتصور أن دوره أن يكره ويقتل الآخر, وليس هو وحده, بل هناك عشرات ومئات العقول التي شوهت مثله يعيشون بيننا ويشكلون خطرا كبيرا علي المجتمع بأثره, والله هو الذي يرحم بلدنا من أمثالهم.