هل من الممكن أن تخرج مصر من أسر حكم الحزب الواحد؟ وأن تتعدي الحياة السياسية مرحلة ”المكلمة” غير الفاعلة؟ ولماذا هي عقيمة عندنا, بينما نتابع بدهشة كيف تبدو الدول الديموقراطية الحقيقية في صورة تدل علي حيوية فائقة وديناميكية هائلة؟
مقدمة: الخلفية والواقع
لمحاولة الإجابة علي هذا السؤال لابد من العودة سريعا إلي العلامات الفارقة علي طريق الحياة الحزبية منذ 1952 (لاحظ أن أول حزب حقيقي تكون في 1907 برئاسة مصطفي كامل وباسم ”الحزب الوطني الديموقراطي”):
ـ حلت الأحزاب في يناير 1953 فيما عدا الإخوان, باعتبارها ”جماعة” وليست ”حزبا”, ولكن السبب الحقيقي ربما كان تحالف الجماعة مع الضباط الأحرار. وفي نفس الوقت بدأ تكوين ”هيئة التحرير” كحزب أوحد, وبهذا اقتصرت الساحة علي ثنائي الحزب الواحد والإخوان.
ـ تجمد التحالف بين الثورة والإخوان بعد حادث المنشية (أكتوبر 1954) وتحولت الجماعة إلي ”محظورة” للمرة الثانية, وطوردت كوادرها فسجن من سجن ورحل من رحل إلي دول الخليج وغيرها. واقتصرت الساحة علي الحزب الواحد الذي تغير اسمه إلي ”الاتحاد القومي” (يناير 56) ثم ”الاتحاد الاشتراكي” (أكتوبر 62).
ـ بمجرد تولي أنور السادات الحكم في 1970 بدأ, أولا وقبل كل شيء, في إعادة أوضاع الإخوان إلي سابقها, فأفرج عن المسجونين ودعا أو استدعي المهاجرين وأطلق للجماعة حرية العمل السياسي, ومهد الطريق لذلك بالتعديل الدستوري لعام 1971 بشأن الشريعة, وإن كان قد حرص علي عدم رفع ”الحظر القانوني” تحسبا للمستقبل إذا فردت الجماعة أجنحتها وخرجت عن شروط التحالف. وهكذا عادت الساحة السياسية مفتوحة فقط للحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي) والإخوان, في تحالف لا يختلف عما كانت عليه الأوضاع قبل حادث المنشية.
ـ في يوليو 1975 بدأ تكوين ”المنابر” بين يمين ويسار ووسط داخل الاتحاد الاشتراكي, ثم بدأ في 1977/1976 تحول المنابر إلي أحزاب هي أقرب ما تكون إلي المنابر التي تدور في فلك حزب حاكم (”مصر”, ثم ”الوطني الديموقراطي”) في إطار الحزب الواحد.
واليوم, وبعد أكثر من ثلاثة عقود مازال المشهد السياسي في مصر يكاد يكون كما هو:
1ـ حزب يحتكر الحكم ويقرر (عبر لجنة الأحزاب) إمكانية تشكيل أحزاب جديدة من عدمه.
2ـ الإخوان (حتي لو أطلق عليهم ”جماعة محظورة”) لهم حرية العمل في الساحة السياسية, طالما لا يخلون بشروط التحالف القائم منذ 1952, وهي حالة ”تحالف مع تنافس”.
3ـ أحزاب, أغلبيتها الساحقة ورقية (نشك إن كان هناك في مصر ـ بما في ذلك أعضاء ”لجنة الأحزاب” ـ من يستطيع تذكر من بين الأربعة وعشرين حزبا المصرح بها ما يزيد علي عدد أصابع اليد الواحدة), والبقية محاصرة حصارا شرسا وخانقا لا تستطيع معه الحراك.
والنتيجة الطبيعية جدا لكل هذا هي مجلس شعب يتقاسم عضويته الحزب الحاكم والإخوان, باستثناء حفنة ضئيلة تنتمي للأحزاب الأخري.
ما الصورة في المستقبل القريب والمتوسط؟
إذا استقرأنا الواقع, واستخدمنا المنطق (الذي ليس دائما العامل الأساسي في تحديد صورة المستقبل!!) فمن المستحيل تصور أن يحكم مصر حزب (أو ائتلاف حزبي) آخر; اللهم إذا انقلبت أدوار ”الحاكم” و ”الحليف” بين ”الوطني” و ”الجماعة”…
يثور هنا سؤال جدير بالاهتمام: ولم لا؟ هناك عدد من دول العالم الثالث, مثل الهند, التي كان يحكمها حزب واحد لفترة طويلة ولكن الظروف تغيرت مع الوقت. لماذا لا نتوقع حدوث نفس الشيء في مصر؟
الاختلافات بين تجربتي مصر والهند كثيرة, والمقارنة بين الهند التي تندفع علي طريق التقدم, ومصر التي تتقهقر بسرعة متسارعة, كاشفة عن بعض جذور المأزق المصري:
1ـ حزب المؤتمر كان هو حزب التحرير, ومازال حزبا جماهيريا ذا قاعدة شعبية عريضة, بينما الحزب الوطني الديموقراطي ولد من رحم السلطة وهو مرتبط بها ارتباطا عضويا وليس له قاعدة شعبية حقيقية خارج جماعات استغلال السلطة.
2ـ حزب المؤتمر قام علي أسس احترام ”قيم” الديموقراطية (وعلي رأسها فصل الدين عن الدولة والمساواة), بينما الحزب الوطني يقوم علي احتقار ”قيم” الديموقراطية ويستعيض عن شكلياتها (صندوق الانتخاب) بالتزوير.
3ـ الآباء المؤسسون لحزب المؤتمر, مثل غاندي ونهرو, كانوا من دارسي القانون في أعرق جامعات بريطانيا (لندن وكامبريدج, علي التوالي), وقد فهموا أسس الحضارة وتشبعوا بها, كما أدركوا جيدا ضرورة التفرقة بين تحرير الهند من الاستعمار وبين قيم حضارة الغرب, وأهمية عدم الدخول في صراع دونكيشوتي أزلي مع الغرب; بينما لم تسمح التجارب الحياتية لأي من حكام مصر منذ 1952 بالاطلاع بصورة مباشرة وشخصية علي ما يموج به العالم الخارجي من أفكار وتيارات.
ما العمل إذن, وهل هناك من مخرج؟ وهل عقمت مصر عن ولادة من يستطيعون قيادتها والخروج بها من هذا النفق المظلم؟
المهمة أشق من نقل الجبال بعد عقود من التسلط والجمود والتخريب والهلوسة والفساد وترابط المصالح. لكن بعث الحياة السياسية والحزبية هو أحد سبل الخروج من هذه الدائرة الجهنمية. وإذا وضعنا كهدف متواضع ”ضرورة إنهاء حكم الحزب الواحد قبل 2020”, فإن ذلك يتطلب وصفة (غير) سحرية تشمل ستة عناصر كالآتي:
أولا: حرية تكوين الأحزاب
لكن لماذا, وما المشكلة إذا كان لدينا بالفعل ”دستتان” من الأحزاب ومئات النواب ”المستقلين”؟
الأصل في العمل السياسي هو أن تقوم به الأحزاب, التي يتجمع فيها مواطنون من أصحاب المصالح والرؤي السياسية المشتركة أو المتقاربة. وعندما تستخدم وسائل الإعلام تعبير ”مرشح مستقل” في الانتخابات بإحدي الدول الديموقراطية, فالأمر لا يعني ألا يكون المرشح عضوا في أي حزب علي الإطلاق, بل فقط كونه لا ينتمي لأحد الأحزاب الكبري علي الساحة. فأمريكا مثلا بها أكثر من أربعين حزبا, ومع ذلك فإن مرشح (النواب أو الرئاسة) يطلق عليه ”مستقل” إذا كان من خارج الحزبين الجمهوري والديموقراطي, وفي فرنسا ومعظم دول أوربا لا يكاد يكون هناك وجود للمصطلح.
ولكن نظرا للتضييق الخانق علي الأحزاب في مصر, ظهرت بدعة المرشحين ”المستقلين” وأدي الأمر إلي إلغاء انتخابات 1984 التي اشتملت علي القائمة النسبية, وإلغاء نظام الانتخاب الذي يقوم علي التمثيل النسبي والعودة إلي النظام الفردي في_1990_ لأن المحكمة الدستورية العليا رأت في ذلك تمييزا ضد ”المستقلين”.
وقد حاولت التعديلات الدستورية لعام 2007 معالجة الأمر علي طريقة الحلول العبقرية لترزية القوانين المصريين, بينما الحل الأبسط والمنطقي والمتبع في كل مكان هو أن يكون العمل السياسي خلال الأحزاب, وأن يفتح الباب لتكوين الأحزاب دون قيود أو شروط.
ونلاحظ مثلا أن الدستور الفرنسي ينص علي أن الحياة السياسية تمارس عبر الأحزاب إذ تقول المادة 4 من الباب الأول: ”الأحزاب والتجمعات السياسية تتنافس للحصول علي أصوات الناخبين. وتتشكل وتمارس نشاطها بحرية وعليها احترام مبادئ السيادة الوطنية والديموقراطية”. وطبقا للقانون يتشكل الحزب بمجرد إخطار الجهة الإدارية ولا يمكن أن يحظر إلا بأمر محكمة إذا كان برنامجه يحض علي الكراهية العنصرية (شرط موجه أساسا ضد أتباع ”النازيين الجدد”).
[لاحظ كيف يكون النص الدستوري مختصرا وواضحا وبعيدا عن الرغي والتناقض, إذ يكتفي بذكر ”مبادئ الديموقراطية” التي يفهم معناها المواطن والفقيه الدستوري علي السواء; وقارن ذلك ـ علي سبيل المثال ـ بإحدي مواد الدستور المصري مثل 76 المعدلة في 2007 والخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية والتي تبلغ 724 كلمة ويحار في فهمها الفقهاء الدستوريون].
يجب إذن أن يفتح الباب تماما لتكوين الأحزاب في مصر بحيث لا تخضع إلا لشروط أربعة لا تزيد أو تنقص, هي:
الشرط الأول: أن يكون مفتوحا لكل المواطنين المصريين علي حد السواء, وألا يوجد في تشكيله أو في برنامجه ما يدل, أو يحض, علي التفرقة أو عدم المساواة بين المواطنين علي أساس الجنس أو العرق أو الدين أو العقيدة بأية صورة من الصور المباشرة وغير المباشرة, طبقا لمعايير مواثيق حقوق الإنسان الدولية.
الشرط الثاني: ألا يكون ذا صبغة دينية, طبقا للمادة الخامسة من الدستور.
لكن هذه المادة التي تقر المبدأ مبهمة وغامضة (دون شك عن قصد!) إذ تتناقض مع المادة الثانية في الدستور الحالي. وبالطبع فإن إشكالية المادة الثانية ستظل قائمة وكما سبق أن قلنا, فلا أمل في حياة سياسية أو في قيام دولة حديثة حقيقية إلا بانتشال مصر من نفق الدولة الدينية, وذلك عن طريق فصل الدين عن الدولة دستوريا وقانونيا وإجرائيا.
لكن من الواضح والبديهي لنا أن ”لا دينية” الأحزاب تستلزم علي الأقل ألا يكون تكوينه علي أساس ديني وألا تستند برامجه إلي مرجعية دينية أيا كانت وألا يدعو إلي تنفيذ شرائع وأحكام دينية, باعتبارها هكذا.
الشرط الثالث: ألا تكون له نشاطات عسكرية أو شبه عسكرية (المادة 180 من الدستور) وألا يحض علي الإرهاب وألا يدعو إلي العنف بأية صورة مباشرة أو غير مباشرة.
الشرط الرابع: أن تكون مصادر تمويله عبر اشتراكات أعضائه, وألا يحصل علي دعم مباشر أو غير مباشر من جهة حكومية (إلا في إطار قانون دعم الأحزاب) أو أية شخصية اعتبارية (منظمة أو جمعية أو شركة), وإن كان يقبل تبرعات من أفراد مواطنين مصريين بصورة علنية ينظمها القانون ويحصل المواطن علي إعفاء ضريبي عن تبرعاته بحد أقصي 2% من دخله السنوي المعلن; وأن يقبل بخضوع دفاتره لمراقبة ”الجهاز المركزي للمحاسبات” طبقا لأسلوب ”التدقيق المستمر” (continuous audit).
يتم تشكيل الحزب بمجرد إخطار من مؤسسيه (بحد أدني لعددهم لا يزيد علي خمسين مثلا) لجهات ثلاث: اللجنة العليا للانتخابات ووزارة الداخلية, والمحكمة الإدارية العليا التي يكون لها وحدها سلطة الفصل في أحقية استمرار الحزب, بناء علي شكوي من إحدي الجهتين الأخرتين أو الجهاز المركزي للمحاسبات, أو شكوي موقعة من مائة مواطن, في حالة الادعاء بإخلال الحزب بأحد الشروط المذكورة.
علي الأحزاب القائمة توفيق أوضاعها وبرامجها قبل الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية التالية… أيهما أقرب.
[email protected]