يواجه التغيير الديموقراطي في مصر والشرق الأوسط مأزقا حقيقيا, وهذا المأزق يعكس الوضع الداخلي في الدول العربية وفي شكل البدائل المتاحة لتحل محل الأنظمة القائمة, ومن ناحية أخري الفتور الغربي الحالي تجاه دمقرطة المنطقة بعد اكتشافهم في الغرب لصعوبة هذه العملية وتكلفتها الباهظة لدرجة وصول العديد من السياسيين والمحللين الاستراتيجيين في الغرب إلي اقتناع مفاده عصيان المنطقة العربية علي التطور الديموقراطي أو الالتحاق بموجات الديموقراطية المتعاقبة والتي تجتاح العالم كل عدة عقود, وأصبح مصطلح ”الاستثناء العربي” من المصطلحات المضافة إلي قائمة المصطلحات السياسية عن المنطقة العربية, وفي المقابل هناك المصطلح المزمن في المنطقة العربية عن ” الخصوصية الثقافية” التي تمنع المنطقة من الأخذ بالنموذج الغربي للديموقراطية.
ونعود إلي الولايات المتحدة ومصر كأمثلة لتوجه كل من الفريقين الغربي والعربي.
في أمريكا ظهرت رؤي استراتيجية بعد 11 سبتمبر تصل إلي حد اليقين الاستراتيجي بأن دمقرطة المنطقة العربية عمل مهم جدا بالنسبة للأمن القومي الأمريكي, ومفاد هذه النظرية أن المنطقة العربية وكثيرا من الدول الإسلامية قد صدرت فائض العنف إلي الغرب, وهذا الإرهاب هو نتاج طبيعي لأنظمة فاسدة مستبدة تفرغ شحنة الغضب لدي مواطنيها ببث كراهية كل ما هو غربي عموما وكل ما هو أمريكي علي وجه الخصوص, كما أن مطاردة هذه الأنظمة للإسلاميين الراديكاليين خوفا من سيطرتهم علي الحكم في هذه البلاد أدي إلي خروج الإرهابيين وتصدير الإرهاب عبر الحدود حتي وصل إلي قلب أوربا وأمريكا. وكانت الرؤية أن الخيارات المتاحة في الدول العربية هي بين الفساد: أي الأنظمة الفاسدة المستبدة , والفوضي: عبر فرض الإرهابيين لمنطقهم الهدام والمخرب علي دولهم ومن ثم بعد ذلك علي العالم.
وكانت الرؤية الأمريكية أن كلا من الفساد الفوضي خياران مرفوضان ويبقي الخيار الثالث وهو الإصلاح الديموقراطي عبر دعم المؤسسات وبناء الحكم الصالح الذي يجعل المواطن ينخرط في خيارات حقيقية ترفع مستوي وعيه ومعيشته حيث تتطور المجتمعات عبر الديموقراطية, فالتنمية, فالعدالة الإجتماعية, فالرفاهية الاقتصادية, وهذه هي الآليات الإيجابية لمعالجة الإرهاب.
وهذه الديموقراطية لها عناصر محددة أهمها:
* أن تسبق الانتخابات حريات واسعة في التعبير والاعتقاد الديني والإصدار الصحفي والبث التليفزيوني وتبادل المعلومات والحصول عليها بسهولة ويسر, وحق التعبير والإضراب وكل أنواع الاحتجاجات السلمية.
* الفصل التام والكامل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية مع ضمان استقلال هذه السلطات في أداء رسالتها.
* الفصل بين الدين والدولة, أي مدنية الدولة بالمعني الحقيقي للكلمة.
* الحرية الكاملة في تكوين الأحزاب وممارسة أنشطتها وبناء كوادرها بما يجعلها قادرة علي أن تكون منافسا حقيقيا للسلطة القائمة.
* اعتماد دولة القانون التي تحقق المساواة والمشاركة الكاملة لكل أطياف المجتمع في العملية السياسية بما يؤدي إلي خلق بدائل سياسية قادرة علي القيام بمسئوليات الحكم.
* الحرية الكاملة للمجتمع المدني في التأسيس والتمويل والحركة.
* المساءلة وتداول السلطة.
كل هذه الشروط تؤدي إلي خلق المناخ الديموقراطي التي تنمو من خلاله الديموقراطية الحقيقية وتتوج بعد ذلك الإنتخابات الإرادة الشعبية الواعية المدربة لتكون عملية تداول السلطة تعبيرا أمينا عن الخيارات الحقيقية للتيار الرئيسي في المجتمع, فهل تحقق أي من هذه الشروط في الدول العربية؟ الإجابة قطعا بالنفي.
الخطير حاليا هو النفور المتبادل بين الشعوب العربية والشعب الأمريكي من فكرة دمقرطة الشرق الأوسط, فالشعب الأمريكي ينفر الآن من سماع اسم الشرق الأوسط بعد الورطة الثقيلة في العراق, والتي كبدت الاقتصاد الأمريكي خسائر فادحة وساهمت في التعجيل بركوده, فأكثر من 80% من الأمريكيين ينظرون بشكل سلبي لما حدث في العراق ويرونه سببا في أزمة الاقتصاد الأمريكي, وأصبح سماع اسم المنطقة يرتبط لديهم بالإرهاب والدم والتضحيات الأمريكية المالية والبشرية.
وعلي مستوي الشارع العربي, فقد تزايد نفور الشارع من فكرة الديموقراطية الأمريكية بعد ظهور النموذج العراقي لهذه الديموقراطية الطائفية, ديموقراطية الميليشيات والفوضي والفساد.
وعادت الإدارة الأمريكية بدورها إلي المربع رقم واحد, إلي الواقعية السياسية, أي أولوية المصالح الأمريكية علي المبادئ الأمريكية.. وقادتها هذه الواقعية مرة أخري إلي التقرب من الأنظمة التي وصفتها من قبل بأنها فاسدة ومستبدة وتصدر إليها الإرهاب.
هل انتفي الأمل؟
لا, الأمل موجود.
فقد برزت مؤخرا قوي مدنية نافرة من النظام وفي مقدمة هؤلاء المدونون, وصحصحة اليسار, وتململ الأقباط, وتزايد حركات الاحتجاج والإضرابات, والدعوات المتكررة للانعتاق من هذه الخيارات السياسية الحقيقية في مصر.
ولكن السؤال: هل هذه القوي ستقود الدولة نحو التغيير أم الفوضي؟ وهل هي قادرة علي تنظيم نفسها بشكل متماسك قادر علي إحداث التغيير المنشود؟, وهل جهودها من أجل التغيير ستصب في سيطرة البديل الأكثر جهوزية والأكثر استبدادا والجاهز للانقضاض علي الحكم والمتمثل في الإخوان المسلمين؟, وهل تعمل هذه القوي باستقلال عن المجتمع الدولي أم تبعث برسائلها له بين الحين والآخر طلبا للنجدة؟, وهل لديها البديل الجاهز فعلا لهذا النظام أم أنها مجرد حركات احتجاج فقط بدون رؤية بديلة؟, وهل هي تمثل حركات سخط أم حركات تغيير؟, وهل سيستخدم الشعب المصري مرة أخري كفئران تجارب من مجموعات محدودة الخبرة كما حدث مع ضباط يوليو من قبل؟.
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها سوف نتناولها في مقال آخر عن مستقبل التغيير في مصر.
[email protected]