تحرص لندن علي الاحتفاظ بمعالمها التاريخية والعريقة, ويحتفظ الإنجليز بهذا التاريخ كي يكون شاهدا علي عظمتهم وريادتهم, وكل بناية في هذه المدينة أو غيرها من مدن إنجلترا تنم عن ذلك, وتجعل الزائر يتمتع بعبق التاريخ وسحر الطبيعة مغلفا بالتطور الصناعي والتكنولوجي, لتظهر لندن في مكانة التي تستحقها, ومنذ أيام كنت في زيارة لحضور ورشة عمل بمعهد دراسات التنمية بجامعة ساسكس وسنحت لي فرصة 48 ساعة فقط لزيارة لندن قبل الانتقال إلي ساسكس جنوب المملكة المتحدة.
بداية الزيارة كانت من منطقة ويستمنستر والتي تتواجد بها غالبية المؤسسات الحكومية, حيث يوجد قصر وستمنستر والذي يضم كلا من مجلس العموم ومجلس اللوردات إلي جوار ساعة بيج بن الشهيرة, والقصر في غاية الروعة والعراقة ويعد من أكبر مباني البرلمانات في العالم, وأمامه عدد من التماثيل المهمة, والقصر يطل علي نهر التايمز من ناحية إلا أن بوابته عبر الشارع الرئيسي كأنه مفتوح أمام عامة المواطنين وليس مكانا مغلقا, ويمكن للزائر أن يدخل مجلس العموم والتعرف علي أسلوب إدارة الجلسات خاصة وأن الأعضاء يجلسون في مواجهة البعض ويدور بينهم حوار جاد وفعال بشكل محترم ويتمتعون بالاستقلال التام عن الملكة, خاصة أن هذا المكان هو الوحيد في المملكة المتحدة الذي لا يحق للملك دخوله كإشارة علي عدم تدخل الملك في شئون المجلس.
ولاحظت أن المواطنين يلتقطون الصور التذكارية بداخل وأمام القصر دون أن يمنعهم حراس القصر الذين يرتدون الزي الإنجليزي الشهير, وأمام القصر هناك عدد من المتظاهرين الذين يفترشون الميدان المقابل للقصر, فهناك من يتظاهر ضد الحرب علي أفغانستان, وآخرون ضد الحرب علي العراق ورافعين لافتة مكتوبا عليها عدد القتلي والمصابين من جراء حرب العراق ويقوم المتظاهرون بتحديثها كل فترة, وكل هذا دون أي مضايقة من أحد.
تماثيل تجسد التسامح والتاريخ
وتنتشر في عاصمة الضباب مئات التماثيل التي تجسد شخصيات لها بصمات كبيرة في العالم بشكل عام, وفي التاريخ الإنجليزي بشكل خاص, فبالقرب من موضع المتظاهرين هناك تمثال للسير ونستون تشرشل والذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا عام 1940واستمر فية خلال الحرب العالمية الثانية ,واستطاع رفع معنويات شعبه أثناء الحرب,حيث مثلت خطاباته إلهاما عظيما لقوات الحلفاء, كما حصل علي جائزة نوبل في الأدب لسنة 1953 للعديد من مؤلفاته في التأريخ الإنجليزي والعالمي.
وتعبيرا عن التسامح السياسي لدي الإنجليز هناك تمثال لقائد الثوار وعضو البرلمان أوليفر كرومول أمام قصر ويستمنستر حيث ساند البرلمان والجيش في مواجهتهما مع الملك, ومع بداية الحرب الأهلية الثانية في المملكة بادر أوليفر كرومويل في القيادة بالزحف علي ويلز وقمع الثورة التي قامت بها , ثم تتابع زحفه شمالا وهزم الإسكتلنديين والملكيين الإنجليز هزيمة ساحقة وتم القبض علي الملك شارل الأول وتمكن كرومويل من الحصول علي الموافقة من العدد الكافي من أعضاء البرلمان بالحكم بإعدام الملك شارل الأول في يناير 1649, ومع ذلك لايزال تمثاله باقيا أمام البرلمان الانجليزي.
بالقرب من القصر هناك كنيسة ويستمنستر أيضا وهي كنيسة القديس بيتر ولها شهرة كبيرة, وفي هذه الكنيسة تم تتويج غالبية الحكام الإنجليز منذ عام 1066, كما أن الدفن فيها شرف عظيم تمنحه إنجلترا, وسبق أن أجريت الصلاة علي جثمان الأميرة ديانا في هذه الكنيسة, ويحرص عدد كبير من رؤساء وملوك العالم علي زيارتها, والكنيسة من الداخل والخارج تتمتع بمظهر تاريخي وإيماني عريق.
وانتقلت بعد ذلك بالمترو إلي المتحف البريطاني, وكانت الرحلة شيقة للغاية فيها يظهر المترو بشكل نظيف وتتشابك الخطوط مع بعضها حيث يوجد أكثر من 13 خطا يرتبطون ببعضهم البعض وعبر لوحات جانبية بالقطار وخارجية يمكن تحديد المحطة المراد الوصول إليها وعدد دقائق انتظار المترو لا تزيد علي 4 دقائق, والكراسي بالداخل أنيقة والمحطات تظهر بثوب جيد, وخرائط المحطات منتشرة حتي لا يفقد أحد محطته أو يتعثر في المكان المراد الوصول إليه.
المتحف البريطاني
المهم, زرت المتحف البريطاني من الداخل ولم أقف في أي طوابير للحصول علي تذاكر الدخول, ماعدا قسم خاص يتم فيه عرض كتاب الموتي للمصريين القدماء وكانت التذكرة للفرد 12 جنيها إسترلينيا, ولم أجد ما يشير إلي ضرورة دفع نقود مقابل التصوير الفوتوغرافي أو الفيديو, وعلمت أن غالبية المتاحف في إنجلترا مفتوحة للجمهور من أجل زيادة الثقافة والمتعة وإطلاع الزائرين علي تاريخ العديد من الحضارات, والمتحف يضم العديد من الأقسام أكثرها شهرة الحضارة المصرية, وكذلك اليونانية والرومانية والأشورية والأفريقية وحضارات الشرق الأدني مثل الصين واليابان والهند, وكذلك أوربا الوسطي والأمريكتين, وهناك قسم خاص عن العملات القديمة في غالبية بلاد العالم, وماكينات طبع العملات.
يتميز المتحف بالعرض البسيط لكل القطع الموجودة به, ومع كل قطعة شرح بسيط ,وتم تقسيم أقسام المتحف بشكل شيق وجذاب تجعلك لا تكتفي بزيارته مرة واحدة, وأكثر ما لفت نظري طريقة عرض الآثار المصرية من حيث الدقة والجاذبية بشكل افتقده كثيرا كلما زرت المتحف المصري بالقاهرة, وغالبية زورا المتحف يقضون وقتا طويلا أمام الآثار المصرية وتحديدا أمام المومياوات في القاعات رقم 61 وحتي 66 , ويتخلل هذه القاعات حجرتان للحضارة السودانية والإثيوبية والقبطية, بينما حجر رشيد وبعض التماثيل المصرية تم تخصيص قاعة 4 لها مع بعض التماثيل ورؤوس الفراعنة والملوك , حيث يجذب فن التحنيط الذي أبدع فيه الفراعنة زوار المتحف, كما يمكن الاستعانة بجهاز يقوم بالشرح للزائر ويكون عونا له مثل المرشد , ومن أكثر القطع الأثرية التي بحثت عنها في المتحف حتي وجدتها حجر رشيد والذي يوجد له نسخة مشابهة بالمتحف المصري ولكن تبقي القطعة الأصلية لها رونق خاص, وتأملت فيها كثيرا ولاحظت أنني لست وحدي الذي يفعل ذلك بل عشرات من زوار المتحف يقفون عندها فهو الحجر الذي فك طلاسم اللغة المصرية القديمة, ونفس الأمر يتعلق بوجوه الفيوم التي جذبت عيون كثير من الزائرين.
نفس الأمر وجدته في الآثار اليونانية والرومانية وحضارة ما قبل اليونانية من حيث دقة النحت في التماثيل للقياصرة والملوك, وتحتل هذه الحضارات مساحة كبيرة من المتحف البريطاني ومخصص لها أكثر من 24 قاعة للعرض, و9 قاعات لعرض تاريخ وآثار العصور الوسطي في أوربا, بالإضافة إلي قاعات لعرض الحضارة الإيرانية والتركية .
التسوق والتنوع
وبالرغم من قصر مدة زياتي للندن إلا أنني تمكنت من المرور أمام قصر باكنجهام, والسير في شارع أكسفورد الشهير والذي يعد من أكبر شوارع التسوق في لندن وتوجد به أشهر الماركات العالمية في الأزياء والعطور, وهناك هايد بارك الحديقة الكبيرة المخصصة للتظاهر, وهناك شارع ادجار رود والذي تنتشر فيه المحلات والمقاهي العربية كأنك تسير في إحدي العواصم العربية, حيث كلمة##حلال## علي غالبية المطاعم الموجودة به, ومحال لتحويل العملة من الإسترليني أو الدولار إلي الجني المصري أو الريال السعودي وغير ذلك من العملات العربية, ونفس الأمر يمكن ملاحظته في ميدان راسل أو ميدان ليسيستر حيث تظهر المدينة الصينية والتي تضم عددا كبيرا من الطاعم الصينية التي تقدم أنواعا شهية من الأطعمة الصينية المعدلة كي تناسب الإنجليز والجنسيات الأخري التي ترغب في الاطلاع علي الثقافة الصينية, ومثل هذه الأمور تعبر عن التنوع الموجود بلندن وكيفية احتضانها لكل الجنسيات بالعالم.
ثم استقلت القطار من محطة فيكتوريا إلي مدينة برايتون في ساسكس, وتعجبت من حال القطار في إنجلترا ومثيله في مصر برغم أن الإنجليز هم الذين أسسوا شبكة القطارات في البلدين, حيث كانت العربات نظيفة والكراسي مريحة وموعد التقاطر قليلا, ويمكن الحجز عبر الإنترنت دون تحمل عناء الوقوف في الطوابير تسهيلا علي الركاب, وخلال 55 دقيقة استمتعت باستقلال القطار والراحة التي حصلت عليها حتي وصلت إلي مدينة برايتون الجميلة وهي مدينة ساحلية جنوب المملكة المتحدة , ونظرا لوجود كتيبات صغيرة عن أبرز المدن والأماكن السياحية بالمملكة المتحدة (متاحة مجانا في محطات الأتوبيس والقطار والمترو) كونت فكرة سريعة عن أبرز الأماكن التي أردت زيارتها.
جامعة بلا أسوار!!
مع بداية اليوم الأول في برايتون انتهيت من ورشة العمل بمعهد دراسات التنمية والذي يعد أكبر معاهد التنمية في العالم واصطحبني أحد الزملاء خريجي المعهد في جولة بجامعة ساسكس جعلتني أتحسر علي التعليم الجامعي في مصر, حيث لم أجد الحرس الجامعي, ولم يطلب مني أحد إبراز الكارنية أو الباسبور, بل كانت الجامعة معبرة بشكل حقيقي عن انفتاحها علي العالم الخارجي, ويشعر الطلبة بأنهم جزء حقيقي من العالم الخارجي وليسوا بمعزل عنه, وتتميز الجامعة بالمساحات الخضراء , وأماكن عديدة يتم فيها بيع الكتب الأدبية والثقافية بأسعار مميزة للطلبة, وهناك أيضا مكتبة عملاقة للاطلاع, حيث إن هذه الجامعة مثل الجامعات المتقدمة لا تجبر الطالب علي شراء الكتاب الجامعي ولا يتحكم في الطلبة أي أستاذ جامعي بدعوي ضرورة شراء الكتاب الجامعي الموقع منه , وإنما فقط يقوم الأستاذ بتقديم محاضرته بشكل شيق وإدارة حوار تفاعلي مع طلابه, ثم يقترح عليهم بعض أسماء الكتب التي يمكن العودة إليها للاستزادة والمعرفة.
الجامعة مكونة من مبان عديدة كلها نفس الطراز والتصميم بالرغم من اختلاف التوقيت الزمني لبناء كل مبني وقاعات المحاضرات مخصصة للتعليم الجيد والعدد محدود وليس بالآلاف كما تنتشر المدرجات في غالبية الجامعات المصرية, وهناك مطاعم خاصة بالطلبة وأماكن إقامة للطلاب, وطلبة الماجستير والدكتوراه, وهناك مكان لبيع الخضراوات والفاكهة حيث يقيم عدد كبير من الطلاب بشكل كبير بالوحدات السكنية فعدد كبير منهم من خارج المملكة المتحدة, وهذه الأسواق توفر عليهم عناء الحصول علي السلع بالرغم من وجود العديد من الأسواق والمحال التجارية خارج الجامعة.
قصر بافليون
ومن أبرز المعالم السياحية والتاريخية بالمدينة ##قصر بافليون## والمصمم علي الطراز الهندي, وبني القصر ما بين 1815 و1822 علي أساس أنه القصر الصيفي لجورج الرابع ملك إنجلترا وقتها, ويعد ضمن المباني الأكثر جمالا في بريطانيا, ويستضيف برنامجا حافلا علي مدار السنة من الموسيقي الحية والرقص والمسرح, وتذكر دخوله 10 جنيها استرلينية, والسعر يتم تخفيضه للطلبة أو للعائلات, ويضم العديد من الحجرات الملكية والتي تحوي العديد من الجداريات الأنيقة والنجف والأواني التاريخية, فهناك حجرة الموسيقي, وحجرة المطبخ, وهناك حجرة المعيشة والتي تجمع بين النقوش الإنجليزية والفرنسية وعدد كبير من اللوحات للملك جورج الرابع, وقاعة كبيرة للطعام , وأجنحة مختلفة تنم عن تاريخ عريق وفن راق يستمتع الزائر به.
وحسب ما عرفته من أحد مسئولي المتحف أنه يمكن عقد مراسم الزواج بإحدي قاعات المتحف مثل قاعة الموسيقي, أو قاعة الملك وليم الرابع او القاعة الحمراء ويسمح للعروسين باصطحاب 40 – 70 فردا فقط, ويمكن للعروسين التقاط الصور التذكارية بقاعة الموسيقي أو بأحد أركان الحدائق بالقصر للحصول علي أجمل اللحظات التاريخية وتسجيلها بالصور وكاميرات الفيديو.
ومن القصر إلي متحف برايتون والذي يضم العديد من الفنون التشكيلية والفخار والخزف ومجموعة من الملابس لمختلف الثقافات سواء الأوربية أو الأفريقية أو الهندية أو اليابانية, وكان زي الفلاح المصري حاضرا في احدي قاعات المتحف, كذلك هناك عرض لبعض التحف والأواني التي تجسد العديد من الفترات التاريخية وتحديد القرون الوسطي, وتظهر مجموعة من الأواني الخزفية المنقوش عليها وجوه عدد من ملوك أوربا والشخصيات الشهيرة, وهناك رأس من الزجاج للموسيقار الكبير بيتهوفن.
تم إنشاء المتحف في القرن التاسع عشر, إلا أنه تعرض لعملية تجديد شاملة وأعيد افتتاحه في 2002 بشكل عالي الجودة والأناقة, وفي ركن المصريات تم توفير عدد من شاشات الكومبيوتر لكي تقدم للزائر الكثير من المعلومات عن التاريخ المصري القديم بشكل تفاعلي مثل أفلام الكارتون, كذلك عرض تماثيل لبوذا وشخصيات آخري من حضارات الشرق الأدني وبعض وجوه من القارة السمراء .
والتسوق في برايتون حاضر وله متعته وتتوفر العديد من الماركات العالمية أيضا, فهناك ميدان تشرشل والذي يضم عددا من المحال التجارية الكبري والتي يتوفر بها كل ما تريده من أجهزة إلكترونية وكهربائية مرورا بالأزياء والأحذية والإكسسوارات والهدايا, كذلك شارع ##لندن رود## والذي يتوفر به عدد من المحال التجارية والسوبر ماركت الكبري.
وتضم برايتون الكثير من الأماكن السياحية والدينية ولم يكن هناك مزيد من الوقت لزيارتها مثل متحف الأحياء المائية والذي يوفر للزائرين التعرف عن قرب علي الكائنات البحرية وهو مخصص بشكل ما للأطفال, وهناك أيضا برايتون بير للملاهي داخل البحر, وكاتدرائية سان بول وغيرها من الكنائس الأثرية .
وفي نهاية الزيارة انتقلت بالأتوبيس من برايتون إلي مطار هيثرو, مرورا بالريف الإنجليزي ولفت نظري أمران الأول يتعلق بالمساحات الخضراء الكبيرة المخصصة للمراعي ,حيث تربي الماشية بشكل جيد وتقدم لحما جيدا ولبنا جيدا وصحيا,والأمر الثاني الذي لفت نظري هو كثرة عدد الملاعب الكبيرة الخضراء المخصصة لكرة القدم, وهي تؤكد أن سمعة الدوري الإنجليزي لكرة القدم لم تأت من فراغ.