تناول الدكتور صلاح فضل مدى الثورة وعمقها، آفاقها ومشروعها وذلك من خلال النقاط التالية :أولاً – كانت الثورة مجرد حركة مباركة للجيش لتصحيح أوضاعه وإملاء مبادئ ضابطه الأحرار الستة .
ثانياً – أدرك قادة الفكر المصرى والعربى – وعلى رأسهم طة حسين – ن التسمية الصحيحة للحركة – أن تكون ثورة فامتد المدى أمامها بلا نهاية .
ثالثاً – كان طه حسين لا يرتجل لتسميته، ولا يقلد مصطلحاً أجنبياً، كان يبصر بنفاذ حقيقة لا يكشفها إلا المفكر المؤرخ الأديب .
رابعاً – أن ثورة يوليو هى الحلقة الثالثة فى سلسلة الثورة المصرية .
عندئذ أمتدت أفق الثورة لتصبح :
أولاً – من تحرير الجيش والسلطة إلى تحرير الشعب والوطن .
ثانياً – من التغيير الجذرى للتقنية العسكرية إلى البنى السياسية والاجتماعية والثقافية فى نهاية المطاف .
ثالثاً – من حدود مصر إلى الأفق العربى والعالم الثلث استراتيجيا.ً
رابعاً – أصبح مشروع الثورة هو مشروع الأمة تتشكل به وتخرج إلى التاريخ الحديث ملفعة بألوانه، وأصبحت حياتها بعد ذلك امتداداً تطويراً تعديلاً لمساره.
– نأتى إلى سؤال تحليل خطاب الثورة واستراتيجية القيام به على النحو التالى :
– لا يمكن لتناول الثورة أن يكون متراوحاً بين المدح والهجاء بل لابد أن يعتمد على التحليل إلى المكونات والعوامل والنتائج، فالخطاب السياسى لة آلياته ونظمه الإقليمية والدولية، والخطاب الاجتماعى له ديناميته ومراحله وبعده المادى واللغوى، أما الخطاب الثقافى هو أعمقها وأعصاها على التحول السريع هو الذى يشرح لنا صلابة البنية القيمية للمجتمع المصرى والعربى منذ الثورة.
وهنا أبدى د. صلاح فضل ملاحظتين أساسيتين: الأولى : أن نقدنا الشديد للثورة اليوم ينبع من ضخامة ما حملناها من آمال لم يتسع لها الواقع التاريخى بالسرعة المطلوبة . الثانية : إن نقطة الالتقاء بين أصحاب الآراء المتعارضة لا تتمثل فى حل وسط فى منتصف الطريق.
وإنما تتجلى فى أن يحفر كل منها بعمق حتى يصل إلى الصخرة التى ارتطمت بها آلة الثورة وأوقفت فعلها، ولن يجدون حينئذ إلا المشروع الصهيونى.
نأتى إلى السؤال الثالث والأخير عن ميراث الثورة وماذا بقى منها للأجيال ؟
وهنا يجيب د. صلاح فضل بأنة قد بقيت منها منظومة من القيم الجديدة تتجسد فى ثلاثة أبعاد:
أولا – على المستوى الفردى :
– تقديس الحرية واعتبارها متنفس الفرد كما أنها روح الجماعة، الحرية للوطن والأمة، الحرية التى مهدت لها العدالة الاجتماعية .
– استرجاع الكرامة وأصبحنا قادرين على تغيير مصائرنا .
ثانيا – على المستوى الوطنى :
– علمتنا الثورة أن المؤسسات هى التى تبقى وأن الزعماء رموز لمراحل وأن الديموقراطية هى الهدف .
– أسفرت الثورة عن تشكيل رأى عام مصرى وعربى يجتمع فى الشدة ويوحد من القلب، ويصوب استراتيجية حركته كل فترة .
– أنضجت الثورة وعينا بالتاريخ، فهو لا يعود إلى الوراء مهما كان بريق الأحلام التالية فالجدل مع المستقبل هو قانون التقدم، والعلم والإنتاج هى أدواته .
ثالثا – على المستوى القومى :
لم تعد كلمات الشاعر :
نحن شعب عربى واحد
ضمة فى حومة البعث طريق
مجرد أنشودة، أصبحت ضمير أمة، كما وصلنا إلى صخرة بيت المقدس ارتطمنا بها وعرفنا التحدى التاريخى الذى ينتظرنا عندها، ولأننا أوفياء لميراث الثورة لن نهدأ حتى نحتضنها بقوة، هذا هو المعنى وتلك هى دلالة احتفالنا بثورة يوليو .
ثلاث ثورات كبرى :
– وقرر المؤرخ الكبير الراحل الدكتور يونان لبيب رزق : إنة لم تفرز ثورة من الثورات الثلاث الكبرى التى عرفتها مصر فى تاريخها الحديث، العرابية ( 1881 -1882 )، وثورة 1919 دولة امتد عمرها حتى بلغ نصف قرن إلا ثورة 1952 ، فبعد خمسين عاماً من الثورة الأولى كانت فى ذمة التاريخ وبعد انقضاء نصف قرن على الثورة الثانية ( 1919 ) وفى جو ملبد بالغيوم السياسية لم يتم الاحتفال بها إلا فى أضيق الحدود.
والصورة مختلفة بالنسبة لثورة 1952 التى يتم الاحتفال بعيدها.
على نطاق واسع، تشارك فيه الهيئات العلمية وقبلها المؤسسات الحكومية الأمر الذى يتطلب تفسيراً – ونرى – والكلام للدكتور يونان : أن السبب هو أن المؤرخين قد غفلوا عن تشخيص العلاقة بين الثورة والدولة، فالأولى حالة مؤقتة والثانية مؤسسة دائمة، وما يتقول به البعض عن حديث عن ” ثورة يوليو فى خمسين عاماً ” إنما يفتقر إلى الدقة ، فالثورة هى مجموعة تغيرات جذرية تنقل شعباً من الشعوب من حالة ( نظام قديم ) إلى حالة أخرى ( عهد جديد )، وهى مرهونة بالوقت الذى تنجز فيه تلك التغييرات، الأمر الذى ينطبق على الثورات الكبرى التى عرفها التاريخح الحديث ” الثورة الفرنسية ” يتفق المؤرخون أن عملية التغيير الأساسية قد جرت فى خلال ست سنوات فحسب فى الفترة الممتدة بين عامى 1789 و 1795 والثورة البلشيفية 1917 فقد تطلب الأمر وقتاً أكبر حتى عام 1924 حين صدر دستور الاتحاد السوفيتى وتحولت الثورة إلى دولة .
ربما نشأ الخلط من أن أياً من الثورتين الكبرتين بعد أن تحولت إلى دولة سعت إلى تصدير مبادئها إلى العالم المحيط، مما ترتب عليه بالنسبة للثورة الأولى حروباً داخل القارة لم تتوقف إلا بسقوط نابليون بونابارت وعقد مؤتمر فيينا عام 1815 ، وهو ما حدث بالنسبة لثورة البلشفية التى صدرت الشيوعية إلى الخارج ، ولكن على نطاق أوسع، فعالم النصف الأول من القرن العشرين كان يختلف كثيراً عن الربع الأخير من القرن الثامن عشر .
– بهذا الفهم يمكن أن نقسم الخمسين عاماً الماضية إلى ثلاث حقب :
الحقبة الأولى : فترة الثورة
شهدت التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى بين عامى 1952 و 1961 بصدور القوانين الاشتراكية .
الحقبة الثانية : فترة تصدير الثورة
وقد تدخلت فى جانب منها مع الفترة الأولى غير أنها امتدت بعدها حتى عام 1967 حين تمكن أعداؤها من دول الغرب من توجية ضربة قوية لها أدت إلى سقوط النموذج، وانحصار موجة المد الغربى من جانب، والدور المصرى بين دول العالم الثالث من جانب آخر .
الحقبة الثالثة : فترة الدولة
التى مازالت قائمة وهو أمر طبيعى، فبينما استغرقت الثورة البلشفية سبع سنوات بقيت الدولة قائمة لثلاثة أرباع القرن بعدها، ومن ثم لا غرابة إذا بقيت آليات ثورة يوليو تعمل لعقد ونصف وأن تبقى دولتها حتى يومنا هذا. وقد قام الباحثون المصريون وانطلاقاً من هذا الفهم بتناول عملية التغيير الثورى اجتماعياً ووطنياً وإدارياً .
ثورة يوليو والتعليم والثقافة
– يتناول الفنان الكبير الراحل سعد أردش القرارات التى صدرت بعد الثورة والتى أعادت إلى أبناء الشعب حقهم فى التعليم وحقهم فى الثقافة، فمجانية التعليم فتحت الأبواب على مصاريعها أمام مجتمع يهتم بالثقافة كوسيلة للنقد والتوجيه، وكهدف لتحقيق التنوير يسهم فى حماية الثورة، وقبل الثروة كانت الثقافة حكرأً على دائرة ضيقة من النخبة، ولم يكن لمصطلح الثقافة وجود فى البنى الأساسية للمجتمع بل أنها كانت من المحرمات، فالتلميذ فى المدرسة والطالب فى الجامعة والمواطن فى مكان عمله، محرومين جميعاً من التعرف على عناصر الصراع بين الطبقات أو الصراع بين الدول ، وكانت مذاهب الفكر السياسى محرفة فى مناهج الدراسة ، لذلك فإن الأرض كانت مهيئة للتعامل مع مؤسسة ثقافية واعية مبنية على التخطيط العلمى وتقدم لكل مواطن مصرى نصيبة المشروع فى الثقافة .
وقام هذا التخطيط على خطين متوازيين :
(1) دراسة واقع الطاقة البشرية من صفوة المثقفين وواقع الأجهزة المنتجة للثقافة .
(2) دراسة الأهداف المستقبلية للمؤسسة الثقافية سواء بالنسبة للبنى الأساسية أو بالنسبة للطاقة البشرية
وعلى هذا تأسست وزارة الإرشاد القومى بريادة الرائد الكبير فتحى رضوان واستطاع أن يقود خطة البحث وتقرير خطة التنفيذ فتأسست مصلحة الفنون بقيادة الكاتب والمفكر يحيى حقى، وعندما اتضحت الرؤى تحولت وزارة الإرشاد القومى إلى وزارة الثقافة وأختير لقيادتها المفكر والمثقف الكبير الدكتور ثروت عكاشة الذى بدأ بتاسيس أجهزة ثقافة الثروة يعاونة نخبة من المثقفين فى مصر .
مسرح الثروة :
بدأ ثروت عكاشة تنفيذ الخطة على مستويين متوازيين :
أولاً : المؤسسة التعليمية :
التى تتضمن تنشئة وتخريج الكوارد المتخصصة فى فنون المسرح المختلفة، فأسس أكاديمية الفنون التى ضمت المعهد العالى للفنون المسرحية ( سبق وأن أسسة الأستاذ زكى طليمات فى أوائل الأربعينيات تابعاً لوزارة الشئون الاجتماعية ) إلى جانب مجموعة من المعاهد العليا المتخصصة للسنما والموسيقى العربية والموسيقى الأجنبية ( الكونسرفتوار ) والباليه والفنون الشعبية والنقد الفنى واستقدم ثروت عكاشة الخبراء الأجانب لهذة المعاهد، كما فتح الباب أمام أجيال متتالية من البعثات الدراسية فى أنحاء العالم شرقاً وغرباً .
ثانياً : المؤسسة الإنتاجية :
كان المسرح قاصراً على القاهرة، وبها مسرحان تابعان للدولة وبالنسبة للأقاليم فكان بالإسكندرية مسرح سيد درويش، وبكل من طنطا والمنصورة مسرح البلدية وكذلك فى بورسعيد، ولكنها كانت كلها دوراً فارغة تنتظر زيارات متقطعة أو فرق القطاع الخاص والهواة .
– ثم بدأ التأسيس على هذا النحو :
(1) أنشئت المؤسسة العامة لفنون المسرح والموسيقى والفنون الشعبية وأختير لقيادتها الرائد الكبير الدكتور على الراعى يعاونة المثقف الثورى أحمد حمروش وتضمنت هذة المؤسسة ثلاثة قطاعات : قطاع المسرح ، وقطاع الموسيقى والأوبرا، قطاع الفنون الشعبية – اتسعت رقعة المسرح لتضيف إلى المسرح القومى المسرح الحديث والمسرح الكوميدى ومسرح العرائس ومسرح الجيب كأول مسرح تجريبى فى مصر .
وتضمن قطاع الموسيقى والأوبرا الأوركسترا السيمفونى وفرقة الاوبرا، وفوق الكورال .
وتضمن قطاع الفنون الشعبية والفرقة القومية للفنون الشعبية ثم فرقة رضا للفنون الاستعراضية والسيرك القومى ومسرح الجليد لفترة وجيزة كما وضعت المؤسسة خطة لتأسيس فرق مسرحية قومية بالعواصم الأخرى وبدأت بالإسكندرية .
(2) أنشئت إدارة الثقافة الجماهيرية، التى تحولت فيما بعد إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة وتتابع على إدارتها عدد من كبار المثقفين منهم سعد كامل وسعد الدين وهبة وحمدى غيث .
– وقد تضمن الخطيط العلمى للثقافة الجماهيرية مستويين :
( أ ) المستوى المعمارى : يتضمن إنشاء قصر للثقافة على الأقل فى كل مدينة وبيت للثقافة فى كل قرية .
( ب ) تضم قصور وبيوت الثقافة كافة الأنشطة الثقافة من مسرح وموسيقى ومكتبة وأتيليهات للفنون التشكيلية والأشكال الفنية، ويقوم الإنتاج الثقافى لهذة الأنشطة على الهواة.
– وقد قدمت هذة الرقعة الواسعة من منابر الإبداع المسرحى أجيالاً متتابعة من الكتاب والمخرجين والممثلين والتشكيليين والموسيقيين، تبدأ بجيل الستينيات الذى حقق ما أصبح ما يسمى فى تاريخ الثقافة المصرية المعاصرة بازدهار الستينيات .
– وأشار الفنان الكبير سعد أردش إلى تأسيس التليفزيون المصرى – الذى تزامن مع تأسيس وزارة الثقافة ليكون مع الإذاعة المصرية أول مؤسسة رسمية للإعلام، وإذا كانت الثورة قد اختارت للثقافة قيادة يسارية، فقد احتارت للإعلام يمينية، وكأنما المؤسستان نموذجان للصراع بين الاتحاد السوفييتى وأمريكا فى مصر والشرق الأوسط، ومنذ اللحظات الأولى بدأ الصراع الفكرى حول محتوى الإنتاج الثقافى بوجة عام، والإنتاج المسرحى بوجة خاص فأسس التليفزيون عشر فرق مسرحية تقدم فى الكثير من عروضها ثقافة استهلاكية تتناقض مع الثقافة التنويرية التى تقدمها مؤسسة المسرح بوزارة الثقافة. وقد استمر هذا الصراع بعد نهاية الستينيات، وبدأ ينحاز لطغيان الثقافة الاستهلاكية فى كثير من الأحيان .
هل كان هذا الصراع رد فعل لصراع على مستوى أعلى بين قيادات الثورة ؟ سؤال يجيب عليه المؤرخون .
الثورة وتطور حركة النشر
– جاء البحث الدقيق الشامل الذى قدمة الراحل الكبير لمعى المطيعى يؤكد أن ( حركة النشر المصرى ) فى ظل نظام يوليو هى نتاج للأسس الاجتماعية فى تلك المرحلة من تاريخ مصر .
وهى الظاهرة التى نجدها عند دراسة النشر فى أية مرحلة تاريخية أخرى .
– لقد طرأت على المجتمع المصرى باستيلاء الضباط الأحرار على السلطة فى 23 يوليو 1952 تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية من شأنها أن تؤثر على تطور حركة النشر فى مصر من حيث المضمون والشكل، واستتبع هذا التغيير أشكالاً تنظيمية فى مجال التأليف والترجمة والطباعة والتوزيع، كان النشر فيما قبل الثورة متأثراً إلى حد كبير بالملكية الخاصة وبالاقتصاد الحر، وانتشرت دور النشر والطباعة والتوزيع على نطاق واسع فيما عدا بعض المؤسسات التى نشأت فى ظروف تاريخية ووطنية فى أحضان الدولة كدار الكتب والجامعة المصرية ومجمع اللغة العربية ،والتى كانت لها مطابع تكفى لأداء وظائف هذة المؤسسات المصرية بما يتفق مع وظائفها الخاصة . رغم هذا بقيت حركة النشر فى مصر أسيرة القطاع الخاص تأليفاً وترجمة وطباعة وتوزيعاً محكومة إلى حد كبير بقواعد الاقتصاد الحر .
وجاء نظام يوليو 1952 وكان فى حاجة شديدة إلى حشد الجماهير المصرية لتأييدة وكان فى حاجة الى أجهزته الخاصة التى تنشر توجهاته السياسية والثقافية والفكرية، ومن هنا نشأ ما اسميناه ( الإعلام الثقافى أو الثقافة العلمية )، ظهرت ( الدار القومية للطباعة والنشر – والدار المصرية للتأليف والترجمة وسلسلة الكتب العلمية، ومشروع الألف كتاب … ) وطبقاً لما جرى على مسيرة الثورة تداخلت هذة الأشكال التنظيمية، وتغيرت وتبدلت العناصر المسئولة عنها .. ولكنها كانت جميعها من داخل كوادر ثورة يوليو .
ولما كان النشر يتبع الأطر الثقافية نشأ عام 1956 ( المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الىجتماعية ). وهو المجلس الأعلى للثقافة الآن فى حدود التصور الثقافى العام للثورة، ونتيجة للصراعات الداخلية التى وقعت بين رجال يوليو تغيرت وتبدلت حركة النشر فى مصر كماً وكيفاً .
وتبعاً للمواقف الفكرية والسياسة للثورة .. كان التعبير عنها فى مجالات الثقافة وبالتالى فى مجالات النشر .