سؤال من أحد القراء.
قال الكتاب المقدس وكان يسوع ينمو في القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس (لوقا2:52)
فكيف ينمو المسيح في الحكمة وهو الإله الكامل في حكمته؟
الجواب
لم يكن المسيح يكتسب شيئا من الحكمة بالتعلم من مصدر خارج عن ذاته, لأن الحكمة والعلم قائمان فيه من حيث هو الكلمة الأزلي, ومن حيث هو حكمة الله, ومن حيث هو الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس, ومن حيث هو الإله المتجسد.
ولم يكن المسيح في حاجة إلي علم ومعرفة تأتيه من خارج, إنما كان يظهر من الحكمة الكامنة فيه, والمختزنة فيه بسر التجسد كلما نما قده, وازدادت قامته, فتأهلت لإبراز هذه الحكمة المكتومة.
فإذا خفي عليك أمر هذا الكمون والظهور, فسأقرب لك تصوره بالكلام عن الإنسان, وأظنك تعلم أن في الإنسان ميولا طبيعية وغرائز موروثة لا تظهر في سلوكه إلا في زمن معين أو مرحلة من حياته تلائم ظهور هذه الغرائز, مع أنها في الحقيقة كامنة فيه كمونا غريزيا وقائمة فيه وفي الجنس البشري بأسره. ذلك لأن ظهور هذه الغريزة أو تلك, في حياة الفرد, يتوقف علي نموه الجسماني واكتمال نضج الأعضاء الخاصة بالغريزة. وكذلك الحال في الاستعدادات العقلية والملكات الذهنية, فإنها تتفتح وتتكشف كلما نما الجسم وتهيأ لظهورها. وقد تتوقف عن الظهور في شخص إذا تعطل نموه الجسماني. حتي إنه علي الرغم من بلوغه سنا كبيرة, لا يزال في تفكير الطفل وإدراكه. وقد يختل جهاز الغدد الصماء في الجسم, فينمو البدن أو بعض أعضائه ومع ذلك يظل النمو العقلي معطلا… فكأن الاتحاد القائم بين النفس والجسد يجعل كلا منهما يتأثر بالآخر, ينمو بنموه, ويذبل بذبوله وضعفه.
وإذا كان هذا كله يصدق علي الإنسان, فهو يصدق أيضا علي مخلصنا من حيث أنه اتخذ له ناسوتا كاملا, والناسوت يتألف من جسم وروح, وهذان ينموان علي غرار ما ينمو جسم الإنسان وروحه, ونحن نعلم أن الإنسان يكتسب العلم:
1- إما من ملاحظة الظواهر الطبيعية ومحاولة استنباط قوانينها (كما في علوم الفلك والطبيعة والكيمياء والطب والهندسة… والاجتماع وما إلي ذلك).
2- أو من التعلم والاكتساب من معلم أو مرب خارج عن ذاته.
3- أو مما ينبثق في نفسه بفعل التأمل من معرفة باطنية.
4- أو مما يهبط علي قلب ذوي الإشراق الإلهي من معرفة لدنية (من لدن الله) وبما يكتسبونه من قدرة علي التبصر وكشف الحجب والتنبؤ والتكلم باللغات وسائر المواهب الروحانية والإلهية, بعد أن تصفو نفوسهم من أدرانها, وتطهر قلوبهم من أكدارها, وتستضئ عقولهم حين تتخلص من تعلقات المادة, وتسمو عن شواغل الحس وترقي علي عالم الشهادة والتجربة الحسية.
وكذلك المسيح له نفس أو روح بشرية خالصة تختلف اختلافا طبيعيا وجوهريا وذاتيا, عن اللاهوت المتحد بها اتحادا لم يلاش أو يغير صفات أيهما, وإنما احتفظ الاتحاد بينهما بالتمايز بينهما في جميع التخصصات والصفات التي تتميز بها كل من الطبيعتين قبل الاتحاد.
وعلي ذلك فالنفس البشرية في المسيح كالنفس البشرية فينا قبل أن يدخل علينا النقص والفساد بالخطيئة, أو كالنفس البشرية في آدم الأول يوم أن خلقه الله بغير فساد وبغير شر. ويوم ذلك كانت نفس آدم طاهرة صافية تتصف بالحكمة والعلم والعرفان. ومن هنا لم يكن عبثا أن يذكر الكتاب المقدس عن آدم أن الله أحضر إليه كل حيوانات البرية, وكل طيور السماء ليري ماذا يسميها, فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية, وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها (التكوين2:19, 20).
فلا غرابة إذن في قول الكتاب المقدس عن المسيح إنه كان ينمو في القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس (لوقا2:52) أو قوله قبل ذلك وكان الطفل ينمو ويتقوي بالروح, ممتلئا حكمة, وكانت نعمة الله عليه (لوقا2:40). فالكلام هنا ينصرف علي الناسوت في المسيح, والذي لا يفترق مطلقا عن طبيعتنا البشرية فيما عدا أنه طاهر, عار من الشر والخطأ والفساد والنقص الذي دخل إلي طبيعتنا بالخطيئة. أما من حيث خصائصها ومقوماتها وطبيعة تكوينها, وقابليتها لسائر الإحساسات (من جوع وعطش وتعب وألم…) وجميع المشاعر والوجدانات والانفعالات (من فرح وحزن وغضب…) وشتي العواطف (من حب وعطف…) ففي هذا كله قد اشترك المسيح معنا بناسوته كاملا من غير أن يداخله فساد أو يعتوره التواء أو انحراف… وكذلك الأمر في المسيح من حيث العلم الطبيعي: نفس المسيح هي النفس المخلوقة علي صورة الله ومثاله, فهي نفس ناطقة, طاهرة, حكيمة, صافية, مضيئة, مشرقة, نافذة, عارفة.
ولسنا نفتكر في كمال الناموس, وننسي أنه متحد باللاهوت اتحادا بلا افتراق, ولا انفصال وإذا كان اللاهوت هو النور, وهو العلم, وهو الحق, ففي هذا أيضا يفترق علم المسيح الإلهي عن علم الإنسان الإلهي. فالإنسان بصفاء النفس وتحررها من شواغل المادة ورغبات الحواس وعلائق الجسم, وبالتأمل العقلاني والنظر الروحاني يصل إلي الله ويبلغ الاتحاد به, فيعرفه ويستضئ بإشراقه ووحيه. ولكن ما فيه من العلم الإلهي قد أخذه لا من نفسه, بل من طبيعة الله التي لا تفترق عن طبيعته هو افتراقا وجوديا وليس اعتباريا فحسب… وأما العلم الإلهي في المسيح فهو علم بالاتحاد الطبيعي الذي تم في سر التجسد بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية في أقنوم واحد وطبيعة واحدة بغير افتراق ولا انفصال.
وإذن يمكن القول إن المسيح كان ينمو ويتقوي بالروح ممتلئا حكمة, أو كان ينمو في القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس, لا بمعني أنه كان يتلقي هذه الحكمة من مصدر آخر خارج عن ذاته الإلهية كلية الحكمة, ولا بمعني أنه لم يكن في طفولة إنسانيته مكتملا كل مكنونات العلم والحكمة من حيث هو الإله, بل بمعني أن ناسوت المسيح كان يزداد حكمة من قبل الكلمة المتحد به, من حين إلي حين علي ما يقول القديس أثناسيوس الرسولي, والقديس كيرلس الكبير عمود الدين, وبعبارة أخري إن هذه الحكمة المكنونة والمدخرة في أقنوم ذاته كإله متأنس, كانت تبدو وتظهر كلما تقدم سنه الناسوتي واكتملت قامته الإنسانية, وكان لابد لهذه الحكمة أن تظل مخفية وأن تظهر بالتدريج باطراد نموه الجسماني, لأنه شاء بتدبيره من أجل خلاص البشرية أن يستر لاهوته ويخفيه, كما أنه لم يدفع طبع اللاهوت فيه أن يوقف أو يبطل طبع الناسوت, وإنما ترك للناسوتية أن تتجلي فيه بصورة طبيعية بحتة, وأن يمر هو بجميع مراحلها وأطوارها, وأن يجتاز بحركاتها ودوافعها, ويختبر في شخصه جميع انفعالاتها ومشاعرها, دون أن يخل هذا كله أو يحل عقدة الارتباط الوثيق التام, والاتحاد الكامل بين اللاهوت والناسوت. وبهذا كان المسيح إلها كاملا, ولكنه أيضا إنسانا كاملا دون أن يكون كمال ناسوته بفعل (أو بفضل) لاهوته, وإن كان يعد دليلا علي حقيقة لاهوته, من حيث أن الكمال التام لم يتوافر في شخص مخلوق بمثل ما توافر في المسيح, فهو في المسيح دليل سموه علي جميع المخلوقين والمحدودين.
وإذا كان كمال ناسوت فادينا طبيعيا وأدبيا, فهو من هذه الجهة مثل الإنسانية الأعلي, يجب أن نقتفي أثر خطواته, ولا يصح أن نعتذر بالعجز والقصور عن متابعته بحجة أنه إله, فلقد أبنا أن الكمال في المسيح لا من حيث هو إله فحسب (فهو تحصيل حاصل) بل من حيث هو إنسان أيضا.
وعلي ذلك فالحكمة, وكذلك النعمة, في المسيح تختلف عنها في الناس, من حيث إنها في المسيح طبيعية بينما في الناس مفاضة عليهم من الله وهي عالية عن طبيعتهم, وهي في المسيح خير محض بينما هي في الناس من أجل أن تعلو علي الفساد فيهم, وهي في المسيح كاملة بينما في الناس بحسب درجات صفائهم واقترابهم من الله, وهي في المسيح لا تنقص ولا تزيد, وإن كانت تظهر بالتدريج بينما في الناس قابلة للزيادة والنقصان تبعا للمجاهدات الباطنية والرياضات الروحية
***
أجل لقد رأي بعض الهراطقة (الخوارج) أن في قول الكتاب المقدس عن المسيح وكان الطفل ينمو ويتقوي بالروح, ممتلئا حكمة, وكانت نعمة الله عليه (لوقا 2:40) وقوله وكان يسوع ينمو في القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس (لوقا2:52) ما يطعن في حقيقة لاهوت السيد المسيح, وتعبيرا لا يليق بابن الله لو كان حقا أنه إله وكأن الإنجيل لم يفرق بينه وبين يوحنا المعمدان الذي قال عنه أيضا أما الطفل فكان ينمو ويزداد قوة في الروح (لوقا1:80)
ولكن هذا التعبير ذاته الذي سوي بين المسيح وبين عبده يوحنا, قد أبرز حقيقة ناسوته. وأكد أنه عاش بين البشر كواحد منهم, وأنه أخضع نفسه بفعل تدبيري لكل ما يخضعون له, مما يعد برهانا قاطعا علي خطأ مذهب بعض الهراطقة الذين ظهروا في صدر المسيحية مثل الدوكيتيين DOCETISM الذين أنكروا أن يكون جسد المسيح حقيقيا وماديا, وادعو أنه جسد خيالي وهمي, ومثل الغنوسيين GNOSTICS الذين زعموا أنه هبط من السماء مركبا من عناصر سماوية وأنه مر ببطن العذراء مريم كما يمر الماء بالقناة, دون أن يولد منها علي الحقيقة, أو يتخذ من جسمها ودمائها شيئا… نقول إن عبارة الوحي عن نمو المسيح في القامة تؤكد حقيقة الجسد الذي اتخذه المسيح, وأنه مادي, وقابل للنمو وأنه لم يهبط من السماء كبيرا بل ولد علي غرار البشر.
وعلي النقيض من هؤلاء الهراطقة, هراطقة آخرون لم ينكروا الجسد وإنما أنكروا النفس البشرية في المسيح, فذهب الأريوسيون إلي أن اللاهوت يقوم مقام النفس في المسيح, ورأي أبوليناريوس أن في المسيح نفسا غير أنها حيوانية بهيمية تصدر عنها أفعال الحس والحركة والنمو, أما أفعال النطق والعقل فتصدر عن اللاهوت.
ولكن الكتاب المقدس إذ ينسب للمسيح أنه كان ينمو ممتلئا حكمة ونعمة فقد أبان أن له نفسا بشرية تتصف بالحكمة وتقتبل النعمة مع تقدم السن والقامة وتطور النمو الجسماني.
كل ما هنالك من فارق أن نمو يوحنا بالروح كان من أجل نفسه, وأما نمو المسيح فهو من أجلنا, باعتباره مظهرا لسر التجسد الذي كان أيضا سبيلا لتحقيق عمل الفداء والخلاص.
ونحن نميل إلي ما ذهب إليه بعض الآباء من أن أبانا آدم الأول خلق في الثلاثين من عمره كاملا في نفسه وجسده ممتلئا حكمة وعرفانا. لكنه سقط في الخطيئة ففقد امتيازاته السامية. وإذ أراد المسيح أن يعيد إلينا ما فقدناه بالمعصية, لم يظهر في الثلاثين من عمره. بل بدأ طريقه من قبل ذلك بثلاثين عاما. بدأن من الحمل في أحشاء الطوباوية مريم إلي أن ولد فنما رضيعا فطفلا, فصبيا, فغلاما, فيافعا, فشابا, فرجلا… رجع إلي الوراء ليخط بنفسه طريق الكمال من جديد. ويعين في كل مرحلة من مراحل حياته علي الأرض المثل الأعلي للإنسان علي الأرض, بعد أن فقد الإنسان في شخص آدم الأول صفات الكمال, وطريق الكمال.
وإذا كانت النعمة هي الفضل أو اللطف الإلهي مفاضا علي طبعنا البشري, فليست كذلك النعمة في المسيح. وإنما هي مجد الله ظاهرا في المسيح, وفضل الله علي الجنس البشري معلنا في شخص المسيح وما قام به من أجلنا. أو بعبارة أخري هي صفات الله وكمالاته وقدراته ظاهرة في المسيح الذي هو صورة الله في الجسد. وربما يبدو ذلك أولا في عصمته من الشر وثانيا في ضروب المعجزات وخوارق العادات التي يجريها بسلطانه الذاتي, وفي ذلك يختلف عن الأنبياء الذين يجرون بعضها بعد الاستغاثة بالله والصلاة إليه, مستمدين من الله سلطانا لم يكن لهم كبشر فانين ومخلوقين.