تسببت الضجة التي أثيرت أخيرا بسبب النقاب, أن فتح بعض أدعياء الدين الإسلامي النار عشوائيا علي كل من لا ترتدي النقاب أو الحجاب.. بل وصلت الضراوة ببعضهم أن أساء إلي النساء غير المحجبات. القضية أصبحت خطيرة وخرجت عن الإطار الديني والأخلاقي وتدفع المجتمع إلي عصور الجاهلية الأولي.. وإذا كان بعض كبار العلماء وصفوة الفقهاء ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية قد تجاهلوا الانزلاق في المهاترات الرخيصة إيمانا بأن النقاب عادة وليس عبادة, وعدم ورود نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تأمر بالنقاب.. إلا أن الحملات المسعورة ازدادت اشتعالا ونالت من كرامة المرأة وسمعتها.. وهذا ما دفع سيدة مصرية إلي تحريك جنحة مباشرة تطالب برد اعتبارها لشخصها ولجميع سيدات مصر غير المحجبات بعد الإساءة البالغةالتي وجهها إليهن داعية إسلامي..
منذ ثلاثين عاما كانت الخيمة السوداء تسيطر علي زي النساء في مدن وقري المملكة العربية السعودية, وكانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتابع ارتداء السيدات للنقاب في أرجاء المملكة.. بل وتطارد النساء اللائي لا تلتزمن بذلك, وكان رجال الهيئة يقومون بوضع علامة إكس كبيرة بفرشاة بالطلاء الأبيض خلف العباءة السوداء التي ترتديها السيدة.. وهذا إنذار بالمخالفة لسرعة تصحيح وضعها!.
كنت وزوجتي نعمل ونقيم في المملكة في الثمانينيات من القرن الماضي وعندما كنت أتوجه لاصطحاب زوجتي من مقر عملها هناك, كنت أتعرف عليها من خلال لون وموديل حذائها, وحينما استعجلتها يوما بعصبية بسبب تلكؤها فوجئت بصوت مختلف عن صوتها يصدر من تحت الخيمة السوداء قائلا: أنا شهيرة السورية زميلة زوجتك.. فقد حدث تشابه في الأحذية!!.
في أحد مواسم الحج في الثمانينيات كانت تسير في إحدي شوارع مدينةالرياض قافلة من النساء المصريات ينتسبن إلي أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة.. وظهرت عيونهم من خلف البيشة السوداء لأنه يبدو أنهن اكتفين بطبقة واحدة حتي تتضح لهن الرؤية, بينما التعليمات كانت تقضي بأن تكون ثلاث طبقات لإخفاء معالم الوجه تماما.. ففوجئن برجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطاردونهم بالطلاء الأبيض, فما كان منهن إلا الانقضاض عليهم بالضرب اعتقادا منهن أنهم يعاكسونهن وكادت تحدث أزمة لولا تدخل بعض النساء والرجال المصريين المقيمين بالسعودية!.
حتي الصحف السعودية كانت تصدر في الثمانينيات وهي خالية تماما من صور النساء, لأن ذلك حرام, وإذا اقتضت الضرورة الإشارة إلي صورة المصدر النسائي أو كاتبة المقال فيوضع فوق اسمها برواز أسود علي عمود كناية عن صورتها!!.
حتي الأفلام المصرية التي تعرض في التليفزيون السعودي كانت تحذف منها مشاهد القبلات أو الإيحاءات الغرامية لدرجة أن بعض الأفلام كان يحذف منها خمسون في المائة من المشاهد فلا تفهم منها شيئا!!.. بل إنه كان ممنوعا استضافة أية شخصية نسائية في التليفزيون السعودي!.
وفي الحفلات والمآدب لا يجتمع الأزواج والزوجات في قاعة واحدة.. بل كان مخصصا في كل منزل أو قصر قاعة أو مجلس للرجال وآخر للسيدات.. فإذا اصطحبت زوجتك لحضور حفل في أحد القصور أو البيوت السعودية عليك أن تدخل من بوابة الرجال المؤدية لقاعة الرجال, وعلي زوجتك الدخول من بوابة النساء المؤدية لقاعة أو مجلس النساء, علي أن يلتقيا في الشارع عقب الحفل!! وممنوع علي الرجال نهائيا دخول القاعات أو المجالس المخصصة للنساء.. فطالما أن هناك أحذية حريمي علي باب حجرة النساء فممنوع علي الرجال الاقتراب! كل ذلك الحرص والتزمت لم يمنع حدوث تجاوزات أو مخالفات أو جرائم, حيث كان يتسلل بعض الرجال تحت النقاب من باب النساء إلي المجالس المخصصة لهن.
كان ممنوعا اجتماع الموظفين والموظفات داخل مكتب واحد في الوزارات والمصالح الحكومية والمؤسسات والشركات.. بل كان مخصصا في الوزارة الواحدة أو المصلحة الحكومية مبني لمكاتب الرجال, وآخر لمكاتب السيدات, ولم يكن مسموحا بلقاء الموظفين والموظفات مهما كانت الأسباب, كان يكتفي بإنجاز الأعمال والتنسيق والمناقشات عبر المكالمات الهاتفية فقط.. والغريب أنه كان يتم أحيانا التوافق والاتفاق عبر الهاتف, وتتم اللقاءات في الشوارع والأسواق وداخل السيارات الخاصة.. والمرأة في جميع الحالات مجهولة الهوية, ولا يمكن أن تضبط لأنها متخفية تحت الخيمة السوداء!!.
مع أوائل تسعينيات القرن الماضي حدثت ثورة أخلاقية في السلوكيات والعادات والموروثات السعودية, وسرعان ما تحررت المملكة من عصر الظلام وانفتحت تدريجيا علي العالم حتي أصبح مسموحا للمرأة كشف وجهها في معظم مدن المملكة بعد أن تسببت الطرحة أو البيشة السوداء ذات الثلاث طبقات في التأثير علي بصر السيدات وإلحاق الضرر بعيونهن, وخاصة أنه كان يتعذر عليهن الرؤية ليلا!..
تحررت الصحف السعودية من البراويز السوداء إشارة لصور النساء.. وأصبحت تنشر صور مشاهير النساء وبطلات العالم في الرياضة واللقاءات والاجتماعات النسائية واستقبال كبار المسئولين لهن.. بل إن المرأة السعودية اقتحمت كل المجالات بما فيها الساحة الفنية.
عند الغزو العراقي للكويت ظهرت القوات الأمريكية في بعض مدن الخليج لتأمينها, وظهرت الضابطات والمجندات يقدن السيارات في الشوارع السعودية.. وهذا ما دفع المرأة السعودية للمطالبة بحقها في قيادة السيارات.. وغدا سنري السعوديات تقدن السيارات والطائرات والغواصات ومركبات الفضاء.. بينما نحن في مصر التي سبقت حضارتها سائر حضارات العالم مازلنا غارقين في قوقعة مناقشات الجاهلية.. النقاب عادة أم عبادة؟!!.