+ “العمل حقّ.. العمل واجب.. العمل شرف.. العمل حياة..”
عندما كُنّا أطفالاً في المرحلة الابتدائيّة في عهد الرئيس عبد الناصر، كان هذا الشِّعار مُعلَّقًا في أماكن كثيرة، وكان مكتوبًا على غلاف الكتب والكرّاسات.. وهو ما لم أنساه حتّى الآن.. وهو شعار يحمل تمجيدًا لقيمة العمل، وتشجيعًا كبيرًا عليه، على أساس أنّه شرف للإنسان أن يعمل.. والعكس صحيح، فمِن العار للإنسان أن يكون عاطلاً لا يعمل.. إذ يكون بمثابة شخص ميِّت، ليس له أيّة قيمة..!
+ إذا عُدنا بالتاريخ إلى الوراء، فسنجد أنّه منذ بداية خلقة الإنسان، وقبل السقوط، وضعه الله في الجنّة ليعملها ويحفظها.. بمعنى أنّه أخذ بوجوده في الجنّة وزنةً من الله، لابد أن يصونها وينمِّيها ويستثمرها.. فلم يكُن الإنسان مخلوقًا ليحيا متراخيًا أو بلا عمل.. فالعمل هو جزء هام من رسالة حياته..!
+ بعد السقوط أيضًا، كان حُكم الله أن يستمرّ في العمل، وبعرق الجبين يأكل خبزًا، وبدون هذا العرق في العمل لا يحقّ له أن يأكل أو يشرب.. ولعلّنا هنا نفهم لماذا لم يُصيِّر السيِّد المسيح الحجارة خبزًا في التجربة على الجبل، مع أنّه يستطيع بالطّبع، ولكنّه لا يريد أن يأكل خبزًا بهذه الطريقة غير الطبيعيّة.. مُعلِّمًا إيَّانا ألاّ نطلب أن نأكل خبزًا عن طريق المُعجزات، أو الحلول السهلة.. بل لابد أن نتعب في العمل ونعرق لكي نتحصَّل على خبزٍ نأكله..!
+ وقد ضرب السيِّد المسيح أيضًا لنا نفسه مثالاً، بالعمل كنجّار في مدينة الناصرة، فأعطى للعمل أهمّيّة وقيمة عظيمة.. أيًّا كان نوع هذا العمل، مادام هو عملاً نافعًا.. فليس هناك عمل أكرَم من عمل آخَر، فكل الأعمال النافعة شريفة ولها كرامتها، سواء كانت أعمالاً يدويّة أو فكريّة أو إداريّة.. فكلّها مطلوبة وكلّها مكرّمة..!
+ وفي مَثَل الوزنات، يتّضِح لنا أهمّيّة المتاجرة بالوزنات، أي أن نعمل بالإمكانيّات الموهوبة لنا من الله ونستثمرها.. والحساب في اليوم الأخير يكون على هذا الأساس؛ هل نحن عملنا وتاجرنا بوزناتنا وربحنا، أم لا؟! مع ملاحظة أنّ العبد الكسلان قد عوقِب عقابًا شديدًا لأنه لم يعمل..!!
+ القدِّيس باسيليوس الكبير يؤكِّد لنا أنّ “أولئك الذين يعملون بجهد هم فقط الذين يحصدون ثمارًا”.. والإنجيل يوضِّح لنا أنّ “الذي يزرعه الإنسان إيّاه يحصد أيضًا” (غل6: 7).. ويؤكِّد هذا المعنى مرارًا كثيرة.. “لا نفشل في عمل الخير، لأننا سنحصد في وقته إن كُنَّا لا نكلّ” (غل6: 9).. “مَن يزرع بالشُّح فبالشُّح يحصد، ومَن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد” (2كو9: 6)..
+ من هنا نفهم أنّنا سنُحاسَب طبقًا لأعمالنا، واجتهادنا وتعبنا، و”كل واحد سيأخُذ أجرته بحسب تعبه” (1كو3: 8).. وأنّ تغذيتنا المستمرّة بكلمة الله هي “لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهِّبًا لكل عمل صالح” (2تي3: 7).
+ نقطة أخرى هامّة.. أنّ العمل يعطي الإنسان قيمة.. وليست المناصِب أو الممتلكات هي التي تعطي للإنسان القيمة. بمعنى أنّنا عندما نعمل عملاً له قيمة، تصير حياتنا لها قيمة، وعندما نضيِّع وقتنا في أعمال ليس لها قيمة أو فائدة حينئذ تصير حياتنا بلا قيمة..!
+ أيضًا العمل ينمِّي المواهِب التي لدينا، والكسل يقتلها.. فمَن يعمل باستمرار ترتقي إمكانيّاته، وتُصقَل وتَلمع مواهبه.. بخلاف الكسول المتواكِل الذي تُدفَن وتموت مواهبه، مثل العبد الكسلان الذي دفن وزنته..!
+ هناك نصوص إنجيليّة هامّة جدًّا تؤكِّد على قيمة العمل وأهميّته.. لعلّ أوضحها ما جاء في رسالة تسالونيكي الثانية الإصحاح الثالث.. عندما حَثّ معلمنا بولس الرسول بالروح القُدُس شعب تسالونيكي على الالتزام بالعمل، ومعاقبة كل مَن لا يعمل بأن يتجنّبوه ولا يخالطوه حتّى يخجل، وأن ينذروه بشدّه من جهة كسله وعدم انتظامه في عمل ثابت.. وأقتطف لكم بعض ما جاء في هذا النصّ الإنجيلي الهام.. “نوصيكُم.. أن تتجنّبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب (لا يعمل في عمل منتظم ثابت)… إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتمَثَّل بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم، ولا أكلنا خبزًا مجّانًا من أحد، بل كُنَّا نشتغل بتعبٍ وكدٍّ ليلاً ونهارًا، لكي لا نُثقِّل على أحد منكم.. لكي نعطيكم أنفسنا قدوة حتّى تتمثّلوا بنا… إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكُل أيضًا. لأننا نسمع أنّ قومًا يسلكون بينكم بلا ترتيب، لا يشتغلون شيئًا بل هم فضوليون. فمثل هؤلاء نوصيهم ونعِظهم بربِّنا يسوع المسيح أن يشتغلوا بهدوء ويأكلوا خبز أنفسهم… وإن كان أحد لا يطيع كلامنا.. فسِموا هذا ولا تخالِطوه لكي يخجل. ولكن لا تحسبوه كعدو بل انذروه كأخ…” (2تسا3: 6-15).
+ كما لا ننسى أنّ معلِّمنا بولس الرسول كان نموذجًا رائعًا في العمل اليدوي بجانب العمل الروحي الكرازي الرعوي.. كما نرى في (أع20: 34)، (1كو9)…
+ ولعلّنا نتذكَّر قصّة الراهِب الذي أتى ليسكُن في أحد الأديرة، وعندما طلب منه رئيس الدير الاشتراك مع الرهبان في العمل اليدوي امتنع بحجّة التفرُّغ للصلاة والقراءة والتأمُّل.. وعندما جاءت الساعة الثالثة ظهرًا، وهو موعِد تناوُل الطعام عند الرُّهبان في القديم، لم يَدْعُهُ رئيس الدير للأكل معهم.. وبعد فترة من الوقت أحسّ ذلك الراهب بالجوع الشديد، فخرج من الكنيسة، وذهب لرئيس الدير قائلاً: أَمَا أكل الرهبان اليوم؟ فأجابه الرئيس: بالفعل أكلوا. فقال له الراهب: لماذا لم تدعُني للأكل معهم؟ فأجاب الرئيس: لماذا أدعوك وأنت تهتمّ فقط بالقراءة والصلاة، وترفض العمل معهم.. ومكتوبٌ “إن كان أحد لا يريد أن يشتغل، فلا يأكُل أيضًا” (2تس3: 10).. عندئذ ندم الراهب على خطئه، وصنع ميطانية لرئيس الدير طالبًا المغفرة، مُعلِنًا استعداده للعمل مع إخوته الرهبان.. فقال له الرئيس: إنّنا نحتاج إلى “مرثا” كما نحتاج إلى “مريم”، ومريم مُدِحَت بمرثا..!!
+ وكنيستنا الواعية، من أجل غرس قيمة العمل في فِكر أبنائها، أضافت حديثًا (بواسطة المجمع المقدَّس) في صلوات القدَّاس طِلبة “عملاً للمحتاجين”.. ونلاحظ أنّ نص الطِلبة ليس “تسديدًا لاحتياجات المحتاجين”، ولكن “عملاً للمحتاجين”.. من أجل تأكيد أهمّيّة أن يعمل الجميع ولا يستسهلوا أن يحصلوا على أموال من أي مصدر بطريقة سهلة، وبدون تعب، وأحيانًا عن طريق الخِداع أو التسوُّل.. فالكنيسة تحارِب هذا الاتجاه وتدعو الجميع للعمل، وتشجِّع عليه بكل الوسائل.. فنرى الآن مكاتب للتوظيف والتأهيل بدأت تنتشر في الكثير من الكنائس.. من أجل تنفيذ وصيّة الإنجيل أن يشتغل الجميع ويأكلوا خبز أنفسهم، ولا يكونوا عالةً على أحد.. (2تس3).
+ وأخيرًا.. ترنّ في أذنيّ كلمة سمعتها من أحد العاملين بالجيش، من غير المسيحيين، عندما كُنت ضابط احتياط قبل حوالي ثمانية عشر عامًا.. وكان رجلاً مجتهدًا جِدًّا في عمله، ويسهر عليه بالساعات الطويلة، فعندما سأله واحد: لماذا تتعَب كل هذا التعب؟! قال: “أريد أن أحلِّل مرتّبي..!” أي يشعر بأنّه حلال له، إذ هو يتعب فيه.. فكَم بالأكثر أبناء الله يجب أن يكونوا أمناء في عملهم، يؤدُّونه بكل قلبهم وبكل جهدهم، وعلى أعلى مستوى من الدِّقَّة والإتقان..!!