الناس اليوم وجوههم صفراء,وملابسهم تبدو باهتة,كأنهم علي موعد مع شئ ما,الجو أيضا شديد البرودة,لم تستطع شمس طوبة أن تدفئ الجو فيما مضي كانت أمي تصنع لنا الملابس الصوفية الملونة,وكانت تدعونا للبس الكثير منها,بعضها فوق بعض,ربما لأن درجة الحرارة في قريتنا النائمة في بطن الصعيد والتي تقع علي بعد 3كم من الأقصر كانت منخفضة جدا,أزحت الكرسي الذي كنت أجلس عليه للخلف,مددت ساقي للأمام وفردت ظهري ورجعت بفكري للماضي عدة أشهر.
كان من المقرر أن أسافر إلي قريتي في إجازة العيد الكبير,لكن السفر تأجل بسبب وفاة عمتي- لحين إجازة العيد الصغير,سافرت لأعقد قراني علي مرزوقة من حسن الحظ أنها من بنات عمومتي,ففي بلدتنا يفضلون دائما الزواج من الأقارب ربما من أجل الحفاظ علي النسل,وربما من أجل الميراث تراصت البيوت علي جانبي الطريق,وقد أرسلت ضوءا زاهي البياض يشق ركام الظلمة.
أخرجت صرة الأكل وبها رغيفان,وقالب جبنة قديمة,وبعض حبات من الطماطم,يبدو أن رطوبة الجو قد أثرت علي الطعام فأصيب بالعطب سريعا,لكنه علي أي حال صالح للاستخدام الآدمي,انفرجت مني ابتسامة مباغتة علي كلمة صالح للاستخدام الآدمي تلك,دعوت الجالس علي الكرسي المجاور لي ليشاركني الأكل لكنه رفض بأدب جم.
قلت له:السفر بالقطارات أكثر أمانا أكثر من السفر بسيارات الأجرة أو الملاكي إن توافرت,اعتدل في مجلسه وبدا وكأنه يزيح كرة من نوم دهمته فجأة وقال:حين يكون السفر في عربات الدرجة الأولي أو حتي الدرجة الثانية يكون أكثر أمانا,وأكثر راحة أيضا من السفر بالسيارات سواء كانت سيارات ملاكي أم لا.
قلت:معك حق خاصة ونحن في شهر طوبة.
لم أكن أعرفه من قبل لكن ملامحه الشديدة المصرية شجعتني علي تبادل الحديث معه وكأنني أعرفه منذ زمن بعيد,هو أيضا كان مسافرا لكي يعقد قرانه علي ابنه عمه,تنهدت في بطء كأنني أمتص الهواء امتصاصا,تملكني شعور طاغ بعبثية الأقدار نفضت صرة الأكل من نافذة العربة التي استقبلها,طويتها ووضعتها في الكيس الذي أحضرتها فيه,تطلعت من نافذة القطار علي سنابل القمح وعيدان قصب السكر,والتين الشوكي,لا توجد لوحات تبين المسافات,الطريق ضيق غير ممهد تكومت فيه الأتربة لتغطي الوجوه وتغلق العيون.
بعد نحو ساعة أو يزيد حاولت أن أغلق زجاج النافذة المجاورة لي لكن الزجاج كان قد اتسعت مجاريه فلم أستطع إغلاقه طلبت المساعدة لم يستطع أحد أيضا,تركته علي حاله فقط أحكمت لف العباءة الصوفية حول جسدي.
في الصيف الماضي سافرت لبيع قطعة أرض كان يمتلكها أبي,رأيت مرزوقة بعد أن صارت شابة لأول مرة فلم أكن قد رأيتها منذ أن كانت طفلة صغيرة,وكانت سمراء بلون الطين,جميلة كأشرعه المراكب لها رائحة الشمس وطعم الثلج,ورغم أنها ليست في جرأة بنات العاصمة ولا ترتدي البنطلون مثلهن لكن ما إن رأيتها حتي رأيت الدنيا كلها محملة بالحياة.
مرزوقة تعلمت حتي حصلت علي الشهادة الإعدادية,وعملت بعد ذلك في محل لبيع الملابس القطنية التي يفضلها السياح والمصريون معا,علمت أنه تقدم لخطبتها شخص آخر لكن حين تقدمت أنا فضلتني علي الآخر.اعتدلت في جلستي كأنني من أفضل خلق الله!
وكانت الخطبة في آخر الصيف واليوم أنا ذاهب إليها لأحضرها للقاهرة عروسا ولنعمر معا بيتا في أطراف العاصمة…أريد أن أتي لها بنجوم السماء وكنوز البحر…سوف أشتري لها بوتاجازا وماكينة لصنع القهوة و….و….
أخرجت من جيب الجلبات الذي كنت أرتديه راديو صغيرا لا يفارقني أثناء رحلاتي بالقطار…استمعت إلي نشرة الأخبار,تفحصت الوجوه…طالعت الجرائد…شعرت أنني اكتشفت شيئا يستحق التقدير,حالات الوفاة لا تقتصر علي صفحات الوفيات فقط بل تمتد بطول الجريدة وعرضها وفجأة اشتعلت النيران في القطار ورأي صاحبنا جميع درجات اللون الأحمر وبعد قليل أقيل وزير المواصلات ورئيس هيئة السكة الحديد.