في الثاني من هذا الشهر أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها للتحقيق في أحداث يوم الأحد الدامي 9 أكتوبر الماضي التي اشتهرت باسمأحداث ماسبيرو وكما تعودنا من المجلس القومي لحقوق الإنسان جاء التقرير حافلا بفيض من الحقائق سواء ما يتصل منها بالأحداث مباشرة أو ما يفتش عن جذورها وهو ما أطلق أنا عليهميراث الغضب والمرارة وكما تعودنا أيضا تتفاوت انطباعات البعض حول التقرير, فهناك من يشجبه وهناك من يتهمه وهناك من يدينه,وذلك يرجع إلي أن الكثيرين يقرأون التقرير بتوقعات مسبقة تبحث عن صياغات بعينها, لكن الحقيقة أن القراءة المتأنية للتقرير تكشف قدرا ملفتا من الحياد والمصداقية والشجاعة, وهناك أجزاء مهمة لا يمكن إغفالها…أسجلها هنا:
000تحليل أحداث ماسبيرو:
00شهدت أحداث ماسبيرو التي فقدت مصر فيها 26شهيدا من المسيحيين وواحدا من العسكريين وواحدا من المسلمين بالإضافة إلي أكثر من321 مصابا من المدنيين والعسكريين, عددا من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تشكل جرائم ارتكبت في حق المتظاهرين السلميين, شملت جرائم قتل عمد وقتل عشوائي واعتداءات بدنية أسفرت عن إصابات جسيمة.
00المظاهرة التي خرجت من شبرا إلي ماسبيرو كانت مظاهرة سلمية بإجماع الشهود وضمت إلي جانب المواطنين المسيحيين العديد من المواطنين المسلمين, ولم يحمل المتظاهرون سوي الصلبان الخشبية والأعلام المصرية واللافتات التي تندد بهدم الكنائس وتطالب بقانون موحد لبناء دور العبادة….والجدير بالذكر أن الدعوة للمظاهرة وإخطار الجهات المختصة بها قد تم قبل قيامها بثلاثة أيام علي الأقل,( أي أن السلطات الرسمية والأمنية لم تفاجأ بها وكان عليها إما منعها أو حمايتها لكن أيا من ذلك لم يحدث).
00تعرضت المظاهرة السلمية للاعتداءات بالرشق بالحجارة والزجاجات عند مرورها أسفل نفق شبرا وأسفل كوبري 26يوليو وفي منطقة بولاق أبو العلا, كما تم إطلاق بعض الأعيرة النارية عليها دون أن تحدث إصابات, وكانت تلك الاعتداءات من مدنيين…وعند وصول المظاهرة إلي منطقة ماسبيرو تحركت الشرطة العسكرية لإيقاف تقدمها وتفريق المتظاهرين باستخدام الدروع والضرب بالعصي الخشبية كما أطلقت الرصاصالفشنك…وفي نفس الوقت ثم إطلاق أعيرة نارية حية علي المتظاهرين من مصادر لم يمكن تحديدها بدقة.
00بعد دقائق من استخدام الشرطة العسكرية للقوة في تفريق المتظاهرين تحركت ثلاث مركبات مدرعة- كانت متمركزة في المكان- بشكل متلاحق وسريع وبحركة دائرية فقامت بدهس عدد من المتظاهرين الذين بوغتوا بذلك فسقط نحو 12 قتيلا تحت عجلاتها بالإضافة إلي الجرحي الذين أصيبوا إصابات بالغة.
00بعد الإعلان في التليفزيون المصري أن الأقباط يعتدون علي الجيش ظهر عدد من المواطنين المدنيين يحملون العصي الخشبية والحديدية والأسلحة البيضاء وانضموا للشرطة العسكرية في ضرب المتظاهرين وسبهم بعبارات:الجيش والشعب إيد واحدة ضد النصاري.
00للأسف الشديد كانت تغطية التليفزيون المصري للأحداث مضللة ومحرضة ضد المتظاهرين من المواطنين المسيحيين حيث عرضت الأنباء تتهم المتظاهرينالأقباط بإطلاق الرصاص علي قوات الجيش والشرطة,وأغفلت عمدا حوادث القتل والدهس والاعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون, مما أدي إلي استعداء المشاهدين علي المسيحيين ونزول البعض لمساندة الجيش ضدهم. لقد ظهر أداء التليفزيون الرسمي فقيرا مهنيا وتقنيا ومفتقدا للمصداقية, وكاد بأخطائه أن يوقع البلاد في أزمة طائفية خطيرة لولا رفض جموع المصريين لمحاولات التحريض والاستعداء التي صدرت عنه.
00لم تكتف المذيعة رشا مجدي بقراءة ما ورد أمامها في شريط الأخبار, إنما بادرت بإطلاق تعليقاتها الشخصية عليه بكلمات حماسية غاضبة لا تتفق مع واجب الاتزان والحياد في الأداء, كما لا تتفق مع الأداء الواعي للمذيع المدرك المصلحة العامة وحدود وظيفته وتأثيره علي جموع المشاهدين, وتعد من أخطر التجاوزات التي سقطت فيها التغطية الإخبارية التي وردت في التليفزيون المصري, ماعرض من خلال عيادة الرعاية الطبية التابعة لمبني التليفزيون من الاقتصار علي عرض ولقاء المصابين من الشرطة العسكرية والأمن المركزي دون عرض أي شئ عن دهس وقتل وإصابة المتظاهرين المسيحيين مما زيف الحقيقة وأوغر صدر المشاهدين تجاه المعتدين الأقباط.
000خلفية أحداث ماسبيرو:
00تشهد مصر منذ1970 سلسلة من العمليات تقوم بها جماعات العنف المسلح التابعة لتيارات إسلامية متطرفة تستهدف المواطنين المسيحيين وكنائسهم, وكانت باكورة تلك الأحداث ماتعرضت له كنيسة الخانكة-محافظة القليوبية- عام1972 والتي صدر بشأنها تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب برئاسة د.جمال العطيفي, وأوصي التقرير في حينه(نوفمبر1972) بأهمية إخضاع تراخيص بناء وترميم الكنائس للقواعد العامة للبناء التي تسري علي المساجد, وضرورة احترام حق المواطنين المسيحيين في ممارسة شعائرهم الدينية دون تمييز….لكن لم تتم الاستجابة لتلك التوصيات حتي تاريخه وتوالت أحداث العنف ضد المسيحيين وكنائسهم الأمر الذي يرجع أساسا إلي تقاعس الحكومات المصرية المتعاقبة عن اتخاذ السياسات والإجراءات التي تحد من العنف وإصدار التشريعات التي تعالج التمييز.
00رغم مشهد التلاحم العظيم بين المصريين خلال أحداث ثورة 25 يناير هذا العام, سرعان ما تبددت هذه الصورة المثالية وتجددت أعمال الاعتداءات علي الكنائس وعلي الأقباط, وظهر ذلك في قريةصول بأطفيح, ثم حوادث أبوقرقاص بالمنيا, ثم كنيستي إمبابة, وأخيرا فيالماريناب بأسوان.
00في جميع هذه الأحداث التي استهدفت الاعتداء علي المواطنين المسيحيين وحرق وهدم كنائسهم خلال الأربعة عقود الماضية تمت معالجة الأمور من جانب السلطات المسئولة باعتبارها ملفات أمنية, وساهمت جلسات الصلح العرفية التي فرضها الأمن في إزكاء الفتنة بدلا من إطفائها,ولم يتم تطبيق القانون لمحاسبة وردع مرتكبي تلك الجرائم أو محاكمة الجناة,علاوة علي التراخي في تنفيذ الأحكام القضائية, فاستمرت وتكررت الحوادث الدامية علي نحو متواتر مما كرس لدي المواطنين المسيحيين الشعور بالتمييز ضدهم بسبب الدين,فزاد انتماؤهم للكنيسة علي حساب المشاركة السياسية والانتماء للوطن.
00بالرغم من التحذيرات المتكررة من المجلس القومي لحقوق الإنسان, إلا أن الحكومة المصرية دأبت علي اتباع أسلوب المسكنات الذي اتبعته خلال الأربعين عاما الماضية, وتأخرت في مواجهة تداعيات الأحداث الطائفية وتقاعست عن فرض سيادة القانون, هذا بالإضافة إلي تراخيها في إصدار القانون الموحد لبناء وترميم دور العبادة الذي تابعه المجلس منذ عام 2006 وألح في تقاريره السنوية علي أهمية إصداره لتفعيل المواطنة وتحقيق المساواة ومنع التمييز, وكان من نتيجة تباطؤ الحكومة في هذا السياق أن ظهرت مؤخرا اتجاهات تطالب بقانون منفصل لبناء كل من المساجد والكنائس دون مبرات واضحة, والجدير بالذكر أن القواعد الفنية والإجرائية العامة واشتراطات البناء والترميم لدور العبادة لا دخل لها بالدين ولذا فمن غير المتصور أن تختلف في حالة بناء مسجد أو كنيسة.
00قدم المجلس للحكومة مشروعا لقانون تكافؤ الفرص ومنع التمييز, ووعدت الحكومة بإصداره, إلا أنها اكتفت بإصدار تعديل لقانون العقوبات يضع عقوبة علي جريمة التمييز بين المواطنين, إلا أن ذلك غير كاف لأنه يقتصر علي الأثر العقابي الرادع بينما يغفل الجانب الإصلاحي لآليات الرقابة وتعزيز المساواة.
000التوصيات:
00الدعوة لتشكيل لجنة تحقيق قضائية مستقلة تنظر في الأحداث في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي, وتخول بالاطلاع علي ما تم حجبه من معلومات.
00الدعوة إلي إحالة التحقيقات في أحداث ماسبيرو إلي لجنة قضائية مستقلة بدلا من النيابة العسكرية وذلك لاستبعاد أي شبهة بعدم الحياد, لأن التحقيقات تتضمن اتهامات لبعض المسئولين بالقوات المسلحة حول جرائم قتل المواطنين دهسا وعن الاعتداءات والإصابات التي لحقت بهم في موقع الأحداث.علاوة علي ضرورة مساءلة كل من شارك في أو حرض علي ارتكاب الانتهاكات في الجهاز الإعلامي بالتليفزيون الرسمي باعتبار ما حدث منه من تحريض جريمة يعاقب عليها القانون وليست مجرد خطأ مهني.
00ضرورة الإسراع بإصدار القانون الموحد لبناء وترميم دور العبادة وتقنين أوضاع جميع دور العبادة في مصر, وكذلك ضرورة إصدار قانون تكافؤ الفرص ومنع التمييز.
00تقع علي الدولة مسئولية التعويض عما ارتكبه ممثلو إنفاذ القانون من قتل وإصابات بالمواطنين وتشمل ذلك سرعة إقرار وصرف معاش استثنائي لأسر الشهداء من المواطنين المسيحيين أسوة بما جري لشهداء 25يناير, هذا مع استكمال علاج المصابين علي نفقة الدولة, وإقرار وصرف التعويضات وفقا للمعايير التي تطبقها القوات المسلحة.