أكثر من قضية طرأت علي ساحة الأحداث وشغلت الرأي العام وتناولها الإعلام باستفاضة خلال الفترة القريبة الماضية, ما أقلقني أن القاسم المشترك بينها كان الكيل بمكيالين…وازدواجية المعايير, ووقفت مندهشا أتساءل: هل يمكن أن تكون الرؤية غائبة أم أننا تعودنا خداع أنفسنا؟! إن مواقفنا وردود أفعالنا تجاه القضايا والأحداث المتشابهة -بل والمتماثلة أحيانا- تختلف وتتباين تبعا لطبيعة الحدث,ونحن نستحل أن نشكل مواقفنا بما تمليه علينا انفعالاتنا وعواطفنا دون أن نتمهل ونقدر ماذا سيكون عليه الأمر لو تم تبادل الأدوار في الحدث.
حدث ذلك في قضية تخصيص كوتة للمرأة في البرلمان… تعالوا نتأمل ازدواجية المعايير التي شابت هذه القضية:
* * قضية تمكين المرأة من القضايا الوطنية المهمة والملحة لعلاج الخلل المجتمعي والسياسي المتصل بحقوق المرأة,فبالرغم من تطور المجتمع ودفعه للبنت إلي مجال التعليم ثم إلي سوق العمل مثلها مثل الولد باعتبارها نصف المجتمع,إلا أن حظها من الفرص يقل عن حظ الولد ومساحة مشاركتها كامرأة في العمل القيادي والسياسي تتضاءل مقارنة بالأفق اللامحدود الممتد أمام الرجل… وهذا اختلال صارخ في ميزان حقوق المواطنة أفرز توافقا عاما علي ضرورة التدخل علاجيا لتصحيح الخلل,وأقول التدخل علاجيا بمعني أن العلاج يعطي للجسد العليل حتي يصح ثم يتوقف العلاج…ولا يستقيم أثناء فترة المرض إنكار حق العلاج علي المريض,كما لا يستقيم الفرز بين المرضي الذين يعانون من ذات الأعراض لإعطاء العلاج لبعضهم وإنكار العلاج علي البعض الآخر.
إذن أنا مع الترحيب بإعمال التعديل الدستوري الذي ينص علي تمكين المرأة من المشاركة السياسية بتخصيص 64مقعدا لها في مجلس الشعب لدورتين متتاليتين,بل مازلت أود أن يسري هذا لفترات أطول لأننا بذلك التعديل لسنا نعالج فقط إحجام المرأة عن التقدم للعمل السياسي,بل أيضا نعالج رؤية وثقافة الشارع المصري الذكوري تجاه تواجد المرأة ومشاركتها الفعالة وذلك يحتاج لوقت طويل لإدراك التغيير المنشود وإلا تحول التعديل إلي هدية مؤقتة يعطيها المجتمع للمرأة سرعان ما تنتكس عند الإقلاع عنها وتعود الأمور إلي سابقتها.
وإذا كان إنجازا وطنيا محمودا أن تتم بلورة سياسات واضحة نحو تمكين المرأة,فمن المنطقي والبديهي والطبيعي أن تطفو علي السطح ونحن نفعل ذلك قضية تمكين الأقباط,فالأقباط مثلهم مثل المرأة يعانون من ذات التهميش ومن الاستبعاد من المشاركة السياسية عن طريق إحجام الأحزاب عن قبولهم علي قوائم ترشيحها في المجالس المنتخبة,وتلك مشكلة عمرها نحو أربعة عقود منذ عودة التعددية بعد وأدها عقب ثورة يوليو,وهي تمس المرأة والأقباط علي السواء,حتي أن المحللين السياسيين طالما كتبوا أن المرأة والأقباط يكادون يكونون في سلة واحدة,إذا نهضت مصر ارتفع الاثنان معا وإذا انتكست تراجع الاثنان معا.
فكيف بنا نشهد جدلا عجيبا إثر إنجاز مشروع مقاعد المرأة في مجلس الشعب يكيل بمكيالين ويرسخ ازدواجية المعايير عندما يحلل تمكين المرأة ويحرم تمكين الأقباط؟!! فجأة أصبح استخدام تعبير الكوتة رهنا بمجال تطبيقه,فإذا كانت الكوتة للمرأة باتت مقبولة وتم اعتمادها ضمن مفردات القاموس السياسي,أما إذا كانت الكوتة للأقباط فهنا يتحول ذات التعبير إلي نقيصة وعار وطني لا يصح الحديث بشأنه لئلا نهين المواطنة وتكافؤ الفرص ولئلا نقض مضاجع الأقباط الوطنيين الذين رفضوا مبدأ الكوتة عند وضع دستور 1923!!.
إن الأدبيات والمواعظ الوطنية التي أطلقها المسئولون ومنابرهم الإعلامية لتبرير كوتة المرأة وتحريم كوتة الأقباط تستخف بعقولنا وتفضح ازدواجية المعايير,ويكفي للتدليل علي ذلك,أن نقوم باستبدال تعبير المرأة بالأقباط واستبدال تعبير الأقباط بالمرأة في هذه الأدبيات لنري كيف يتم الكيل بمكيالين في قضية واحدة لا اختلاف عليها سوي أن الإرادة السياسية توفرت بالنسبة للمرأة ولا تتوفر بالنسبة للأقباط,فانبرت الأبواق تلوي المنطق بحيث تحلل تمكين المرأة وتحرم تمكين الأقباط.
الدراسات الإحصائية عن تمثيل الأقباط في البرلمان تشير إلي واقع مخجل عن تآكل وتدني مشاركة الأقباط في البرلمانات التي تعاقبت علي مصر فيما بعد 1950,فقبل 1950 وعبر عشرة برلمانات متعاقبة وصل التمثيل القبطي إلي 27عضوا منتخبا من بين 264 إجمالي مقاعد البرلمان آنذاك,بينما آخر برلمانات مصر المنتخب عام 2005 يضم قبطيا واحدا منتخبا بالإضافة إلي ثلاثة معينين من بين 454مقعدا… ولا يزال محترفو التبريرات والتصريحات يصرون علي أن ما ينطبق علي المرأة لا ينطبق علي الأقباط ومازالوا يذكرون جيدا أن الوطنيين الأقباط رفضوا الكوتة عام 1923,لكنهم يفشلون في إدراك الواقع الذي تم رفض الكوتة في ظله,وكيف يمكننا استعادته لكل من المرأة والأقباط علي السواء.
ليست هذه القضية وحدها التي يكال فيها بمكيالين وتزدوج فيها المعايير…فهناك قضايا أخري.