قبل زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للقاهرة الخميس الماضي انشغلت معظم وسائل الإعلام في تحليل الزيارة والتكهن بمضمون بالخطاب الذي سيلقيه في جامعة القاهرة ومحاولة استقراء ما سوف يحدث في منطقة الشرق الأوسط ومن بعدها العالمين العربي والإسلامي علي أثر الخطاب,وكأن أوباما سيأتي نادما راكعا معتذرا عن كل ما حاق بالمنطقة وباسطا عصاه السحرية ليغير واقعها بما يحقق أماني وأحلام شعوبها!!
ذلك كان جانبا من الاجتهادات التي سبقت الزيارة,أما الجانب الآخر فكان حذرا متحفظا لا ينساق وراء أوهام وخيالات,بل تنحصر توقعاته في أن تمثل الزيارة والخطاب مبادرة طيبة من جانب الرئيس الأمريكي يمد من خلالهما يد الصداقة والاحترام لسائر الشعوب العربية والإسلامية سعيا لبدء مرحلة جديدة للتواصل والعمل المشترك من أجل السلام والرخاء.وأعترف أنني كنت واحدا من المنحازين لهذا الجانب الحذر…وها هو خطاب أوباما الذي ألقاه الخميس الماضي في جامعة القاهرة يؤكد علي عدم وجود عصا سحرية أو معجزات,بل هناك يد صداقة ممدودة لبداية طريق طويل وصعب للعمل المشترك بين الولايات المتحدة والعالم العربي والإسلامي.
من الناحية النفسية كانت هذه الخطوة مطلوبة لتحقيق المصالحة بين أمريكا القطب الأعظم في عالم اليوم وبين العالم العربي والإسلامي,لأن تطورات الأحداث العالمية منذ سبتمبر 2001 وانفجار الإرهاب المرتبط بالإسلام السياسي وسياسات الإدارة الأمريكية السابقة لمحاربة ذلك الإرهاب,أفرزت ميراثا من المرارة والكراهية تحمله شعوب العالم العربي والإسلامي تجاه أمريكا أضيف علي ميراث الظلم المتراكم لدي تلك الشعوب إزاء انحياز أمريكا لإسرائيل فيما يخص القضية الفلسطينية…ذلك الميراث ورثه أوباما وإدارته,وكان عليه أن يفعل شيئا لتصحيح صورة أمريكا في العالم كله-وليس العالم العربي والإسلامي وحدهما-لتعود أمريكا الصديق والشريك بدلا من القوة الغاشمة المتغطرسة التي مثلتها الإدارة السابقة…أيضا لتعود أمريكا حاملة لواء التبشير بقيم الحرية والديموقراطية الذي طالما كانت نموذجا حقا له,وليس أدل علي ذلك أكثر من تقديمها باراك أوباما نفسه كأول رئيس أمريكي من أصول أفريقية في سابقة تاريخية تعجز عنها أعتي الديموقراطيات الراسخة في عالمنا,وفي إنجاز حضاري للإنسان لم تقترب منه سوي الهند.
باراك أوباما فعل ماعليه,لكنه لن ينجز التحديات الماثلة أمام شعوب العالم العربي والإسلامي بمفرده,إنه بخطابه رد الاعتبار لهذه الشعوب.ومد يد الصداقة لها وحدد معالم الطريق الشاق الواجب السير عليه والقرارات الشجاعة الصعبة الواجب اتخاذها لبلوغ الأهداف المشتركة لترسيخ السلام العالمي والاستقرار والتنمية والرخاء للجميع…فهل تدرك هذه الشعوب وهل يدرك حكامها التحدي الماثل أمامهم والمسئوليات الملقاة علي عاتقهم للتعامل مع مبادرة أوباما بالشكل الذي تستحقه؟
أوباما تحدث عن مصر بقدر كبير من التقدير والاحترام ووصفها بأنها صديق وحليف استراتيجي للولايات المتحدة-بدليل اختياره للقاهرة ليوجه منها خطابه-وفي حديثه له مع مراسل الـ بي.بي.سي في واشنطن قبل الزيارة أوضح أن مصر تعتبر قوة محورية لا غني عنها في المنطقة لأنها استطاعت عبر ثلاثة عقود احترام اتفاق السلام مع إسرائيل والحفاظ علي الاستقرار في المنطقة,لكنه تحاشي التعقيب علي سؤال حول درجة احترام الإدارة المصرية للحريات السياسية والدينية وحقوق الإنسان ومعايير الديموقراطية بشكلها المعروف في الغرب…إذا لا يجب أن تسئ الإدارة المصرية فهم مبادرة أوباما واختياره للقاهرة دونا عن سائر عواصم العالم العربي والإسلامي علي أن كل شئعال العالوإنه ليس في الإمكان أبدع مما كان,بل عليها أن تأخذ خطوات شجاعة في اتجاه تعزيز وتدعيم الحريات والإصلاح السياسي والديموقراطية…كما أن عليها أن تكف عن التعامل بوجهين مع الإدارة الأمريكية-الأمر الذي بات مثار تندر وسخرية كثير من المنابر السياسية والإعلامية في الخارج-فهي تتعاون مع أمريكا وتقبل معونتها وترحب باستثماراتها وتستضيف المؤسسات التنموية الأمريكية علي أراضيها منذ نحو ستين عاما,بينما تنتهج خطابا سياسيا موجها للشارع المصري وتبارك وتسكت علي خطاب إعلامي ينشران الكراهية والعداء لأمريكا!!
أوباما تحدث عن مسار حل القضية الفلسطينية وعن التزام أمريكا بحل الدولتين,لكنه أكد علي سبيل المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية لتحقيق ذلك,وعلي القرارات الصعبة والشجاعة المحتم علي جميع الأطراف اتخاذها لإحلال السلام…فهل فهمت الرسالة في منطقتنا علي أن أمريكا ستتولي من جانبها إرغام إسرائيل علي التخلي عن الأراضي الفلسطينية دون أن يفعل الفلسطينيون شيئا؟…أرجو أن نكون أعقل من ذلك وأن نعرف أن الصف الفلسطيني مضطرب ومنشق وغير متفق علي أهداف أو سياسات واحدة وأن علي الفلسطينيين الكثير الواجب أن يفعلوه ليوحدوا من صفوفهم ويتأهلوا للجلوس علي مائدة المفاوضات,وأن علي حماس إذا رغبت أن تشارك في صنع السلام أن تراجع قراراتها وتوجهاتها المعادية لإسرائيل وتعدل عن تبعيتها لإيران…هذا كله لن يفعله أوباما عنا!!
أوباما وجه رسالة مصالحة وصداقة ورد اعتبار للعالم الإسلامي وأكد علي أن أمريكا ليست معادية للإسلام وليست في حرب معه…فهل وصلت الرسالة؟…وهل تستطيع شعوب العالم الإسلامي أن تفرق بين دينها وعقيدتها وبين المتاجرين بالإسلام الذين يلتحفون به وسيلة لمحاربة العالم وينشرون باسمه التطرف والإرهاب والعداء؟…أوباما بادر بتطييب خواطر المسلمين وطمأنتهم أن أمريكا وسياساتها تحترمهم وتبغي صداقتهم,لكنه لم يقل إن أمريكا ستتخلي عن معركتها مع الإسلام السياسي والإرهاب.
أوباما لم يأت إلي القاهرة حاملا عصا سحرية ولا يجب أن نحلم بمعجزات تغير من واقعنا إلا بقدر القرارات الشجاعة الصعبة التي سوف تتخذها…أوباما صورة طيبة لإدارة أمريكية جديدة,لكن المصالح الاستراتيجية الأمريكية ستظل هي المحرك الذي يرسم سياسات أمريكا وقراراتها.