قضية المشروع الطموح الجاري تنفيذه في محطة سيدي جابر بالإسكندرية والتي تناولتها بالكتابة الأسبوع الماضي,لم أفرغ منها بعد,فقد كانت المسألة الملحة التي فرضت نفسها واستهلكت مقال الأسبوع الماضي متصلة بالخلل الخطير في تأهيل ما تبقي من المحطة لاستمرار أداء دورها كمحطة سكك حديدية,دون النظر إلي توفير الأمان لحركة الركاب المسافرين والقادمين,وتركهم يعبرون شريط السكة الحديد بين حركة القطارات بما يحمله ذلك من استهانة بسلامتهم وتعريضهم لدرجة مخاطرة عالية,علما بأن البديل البديهي الآمن لذلك الخلل يكمن في تنفيذ كوبر معدني علوي ينقل الحركة بين أرصفة المحطة,ويحل محل النفق الذي كان موجودا دوما,إلي أن ينتهي تنفيذ المشروع الذي لا نعرف عنه شيئا…ما طبيعته؟…الأنشطة التي سوف يضمها؟…كيف سيتم إدماجه مع حركة محطة السكك الحديدية؟…ومدي حفاظه علي الطابع الهندسي والمعماري للمحطة؟
أقول ذلك وفي ذهني الضجة المثارة حول مشروعات تطوير محطة سكك حديد القاهرة بميدان رمسيس والتي بدأت بمشروع الجراج متعدد الطوابق الذي تم الشروع في تنفيذه,ثم ما لبث أن فجر أزمة باتهامه بإخفاء مبني المحطة بطابعه المعماري التاريخي المرموق,وبالتالي تقرر هدمه,بالرغم من الملايين التي أهدرت فيه,ثم ما يثار بعد ذلك عن مشروعات لتطوير المحطة سواء في مجال حركة السكة الحديد أو في مجال خلق مجمع تجاري فيها,أسوة بالمتبع,في سائر محطات السكك الحديدية في عواصم ومدن دول العالم…كل ذلك يثار ويثير معه لغطا حول حساب المكاسب والخسائر إزاء احترام معايير التنمية العمرانية والحفاظ علي الطابع المعماري للمباني القديمة ذات القيمة التاريخية.
إن ما رأيته في محطة سيدي جابر أثار في داخلي ذات الأسئلة ونفس القلق الذي ينتاب أي مواطن غيور علي عدم إهدار الثروة المعمارية التي نمتلكها في بلدنا,فمبني المحطة الذي يعود تاريخه إلي خمسينيات القرن الماضي ويتبع طراز العمارة الحديثة في باكورة اجتهادات الهندسة المعمارية في مصر للخروج من عصر العمارة الكلاسيكية,يعد من الأعمال المعمارية التاريخية الجميلة التي يجب الحفاظ عليها وعدم المساس بها أو إفساد طابعها.
عن هذا المبني كتب أستاذي الفاضل المهندس صلاح زيتون(1917-1994) في كتابه الجامع الشيق عمارة القرن العشرين:…كان قسم المباني بمصلحة السكك الحديدية مسئولا عن تصميم محطات السكك الحديدية ومخازنها وورشها.وعندما ترأس هدا القسم الهندس محمد رأفت قام بتصميم محطة سكة حديد سيدي جابر بالإسكندرية التي تميزت بخطوطها الهندسية الصريحة وتوزيع كتل المباني المتناسقة والتي استعمل في تكسية واجهاتها الطوب السورناجا الأصفر,مستغنيا بذلك عن البياض.وبذلك أمكن لهذا المبني أن يظل في حالة طبيعية جيدة رغم انقضاء حوالي خمسين عاما علي إنشائه.
فماذا من أمر المشروع الجاري تنفيذه حاليا,وكيف تعامل المهندسون القائمون عليه مع واقع المبني الأصلي للمحطة؟…هذه أسئلة مهمة مثارة تبحث عن إجابات لتبدد قلقا مشروعا لدي الكافة سواء كانوا مهندسين أو كانوا مواطنين عاديين,وكلهم لهم الحق في الحصول علي تلك الإجابات…ولا يمكننا القول إن حق المواطنين في الاطلاع علي طبيعة ونشاط وطابع المشروع الجديد الجاري تنفيذه في محطة سيدي جابر هو تدخل فيما لا يعنيهم,بل علي العكس تماما هذا الحق أصيل,لأننا إزاء مبني عام وتاريخي لا يستقيم التفريط فيه أو تشويهه بأية صورة من الصور.
بناء عليه أطالب محافظة الإسكندرية ووزارة النقل وهما الجهتان المعينتان بمشروع تطوير محطة سيدي جابر بالكشف عن تفاصل المشروع وطمأنة الرأي العام فيما يخص مصير مبني المحطة الأصلي,وكيف تم دمجه مع المشروع الجديد ودرجة الحفاظ عليه وعلي طابعه…إن الشفافية ملحة وضرورة في هذا الخصوص لئلا يصيب هذا المشروع ما أصاب جراج محطة سكك حديد القاهرة من احتجاج الرأي العام وثورة السياسيين وصراخ الإعلام,وأسفر عن جرح سياسي للحكومة باضطرارها إلي التراجع عن تنفيذ المشروع,علاوة علي الخسارة المادية فيما أهدر من تكاليف البناء,مضافا إليها تكاليف الهدم.
لست ضد أي مشروع خدمي أو استثماري جديد,ولست كارها لأي جهد يسفر عن تطوير حقيقي ويخلق فرص عمل جديدة لأبنائنا,لكن كل ذلك لا يتعارض مع الحفاظ علي القيم الجمالية والحضارية في مبانينا التاريخية…ولعل مهندسينا يعرفون العديد من المحاولات السابقة التي نجحت في تصميم مشروعات كبري احتضنت مباني تاريخية قديمة أو اندمجت معها بصورة أظهرت وأكدت طابع ورونق وعبق تاريخ المبني القديم…وتلك المحاولات في شتي دول العالم المتحضر كانت تنظم من أجلها المسابقات المعمارية,حيث يتنافس المعماريون في كيفية توفير الوظيفة المطلوبة لمشروع التطوير دون إفساد أو تشويه المبني الأصلي.
لم أسمع عن مثل تلك المسابقات تم تنظيمها لتطوير محطة سيدي جابر,وقد يكون ذلك جهلا من جانبي,كما لا أتهم المشروع الجاري تنفيذه حاليا بالتقصير أو التشوية سلفا,فقط فوجئت بما يجري هناك,وأثار في داخلي هواجس مشروعة وأسئلة تبحث عن إجابات,ولعل ما زاد من وطأة الهواجس وإلحاح الأسئلة ما اختبرته من التسيب والاستهانة بأمان المواطنين في حركتهم عبر الأرصفة,وعبور شريط السكة الحديد,فوقفت أتساءل:…ولكن ماذا يحيق بمحطة سيدي جابر؟!!