استرعي انتباهي الأسبوع الماضي ما نشر حول قيام نواب الشعب بتقديم سبعة وتسعين سؤالا وطلب إحاطة للدكتور يسري الجمل وزير التربية والتعليم في إطار محاسبته علي سياسة وزارته بشأن تطوير التعليم وإحلال وتجديد المدارس والتأخر في إنشاء مدارس جديدة ولست أعترض علي طبيعة هذا الكم الملفت من الأسئلة لكني أتساءل هل بالفعل جميعها تدور حول العناوين الرئيسية المنشورة أم أن هناك تفاصيلا أخري جرت مناقشتها,وماذا كانت ياتري إجابات وتبريرات وزير التربية والتعليم,وهل جري احتواء الأمر كما يحدث عادة في ظل الأغلبية المطمئنة التي تتمتع بها الحكومة,أم أن هناك توصيات صدرت لعلاج التقصير والقصور الجاثمين علي صدر العملية التعليمية؟
إن المتابعين والمعنيين بالعملية التعليمية في مصر فريقان:الأول ينظر إليها بشكل سطحي ويركز انتقاداته علي القشرة الخارجية لها فيتحدث عن مباني المدارس وكثافة الفصول وحالة الخدمات والملاعب,ثم يعرج علي خدعة مجانية التعليم ونزيف المصروفات الذي يعذب الأسرة المصرية من خلال بنود مجموعات التقوية والدروس الخصوصية…ولست أستهين أو أقلل من شأن تلك الأمور التي يتحتم أن تشملها بجدية سياسات تطوير التعليم,لكني مهموم-بل مذعور-بما يراه الفريق الثاني الذي يغوص في عمق العملية التعليمية ويفزع من تردي معيار الكيف فيها بدءا من تصميم المناهج ودرجات العقل والوعي التي تستهدف غرسها في التلاميذ,ثم نوعية المدرس المسئول عن الدور التعليمي التربوي في الفصل وكيفية إدارته لآليات فتح مدارك التلاميذ وحث عقولهم علي ممارسة مراحل الشك والمناقشة والبحث والاختلاف سعيا وراء دقة المعلومة والتثبت منها…وكلها آليات غائبة عن الفصل المدرسي حيث السيطرة والسيادة فيه للأنماط الجامدة للمعلومات والقوالب المعدة سلفا لتلقين الطالب,وعدم الترحيب بالاعتراض أو التشكيك في المعلومة باعتباره إضاعة للوقت وتمرد علي النظام,وكل ذلك يؤدي في النهاية إلي إنتاج أجهزة تسجيل بشرية غير قادرة علي الإبداع والابتكار والتطوير,وبالتالي انهارت معايير البحث العلمي وأصبح محكوم علي بلادنا أن تعيش مستهلكة لما يجود عليها العالم المتقدم من تقنياته واختراعاته.
وقد يكون التردي المشار إليه غير ملموس بشكل صارخ في المواد العلمية والرياضية في المرحلة الثانوية-بالرغم من انهيار مستويات المعامل والتطبيق العملي في تلك العلوم-لكن الكارثة تطل بوجهها المفزع من خلال المواد النظرية والفلسفية التي تعتمد علي الاجتهاد في الاختلاف وإعمال العقل,وتأتي الطامة الكبري عند تشريح وتحليل مقررات اللغة العربية للمرحلتين الابتدائية والإعدادية,حيث الانزلاق الخطير والمؤسف لتديين المقررات برمتها وفرض الهيمنة علي عقل التلميذ وإخضاعه للغيبيات في كل صغيرة وكبيرة سواء في الجوانب العلمية أو الثقافية أو القيمية أو الأخلاقية أو الوطنية أو حتي الرياضية والترفيهية,فهناك إصرار غير مفهوم وغير مبرر علي الزج بالدين في كل شئ…وقد تكون الكارثة أقل وطأة لو كان الزج بالدين يتضمن الإشارة إلي مرجعيات الأديان المختلفة التي ينتمي إليها التلاميذ في الفصل-بالرغم من أن الأمر يظل منطويا علي كارثة-لكن الأبعاد الحقيقية للكارثة تنكشف وتنفجر إزاء الإصرار علي اعتماد دين الأغلبية المسلمة مرجعية وحيدة لنشر المبادئ والقيم والأخلاق والوطنية وكل الخصال الطيبة فيما يرتبط بالدين وفيما لا يرتبط به وفي تغييب غريب لمفهوم الآخر الذي بدلا من تذويبه علي أرضية المواطنة تتولي العملية التعليمية تأصيله عن طريق النفي والاستبعاد والتهميش.
وحتي لا ينزع أحد إلي الاندفاع نبعث هذا الكلام بأكلا شيهات الشجب المألوفةمثلالتعصبأوتهديد الوحدة الوطنيةأوتكدير السلام الاجتماعيوما إلي غير ذلك من أساليب دفن الرؤوس في الرمال والإبقاء علي المحنة مسكوت عنها,أحيل من يريد التحقق من صحة ذلك الواقع المريض إلي تفاصيل الحلقات الخمسة التي نشرتهاوطنيعبر الأسابيع المنصرمة تحت عنوانالأصولية الدينية وطلبنة التعليم المصريللباحث المدقق عادل جندي الذي أبحر وغاص في مقررات اللغة العربية للمرحلتين الابتدائية والإعدادية وخرج بأدلة مخيفة علي وجود كارثة تهدد عقل الطفل والتلميذ المصري وتدفع به نحو الهوس الديني والأحادية الفكرية وتختطف مداركه لحساب الهيمنة الدينية ونفي الآخر واغتيال المواطنة.
ولأني أشك أن هذه الكارثة بكل أبعادها المخيفة ليست علي قائمة الأسئلة السبعة والتسعين التي وقف وزير التربية والتعليم تحت قبة مجلس الشعب ليجيب عليها,فإني أتقدم بالسؤال رقم(98)للسيد الوزير في هذا الخصوص,ولأني لا يحق لي أن أتقدم بنفسي بالسؤال لأني لست عضوا في مجلس الشعب فإني أقدم تلك الملابسات مرفقا بها الدراسة ذات الحلقات الخمسة المذكورة إلي السادة أعضاء مجلسي الشعب والشوري مخاطبا ومستصرخا وطنيتهم وغيرتهم علي العملية التعليمية ومطالبا بتقديم طلب إحاطة عاجل لوزير التربية والتعليم-أو لعله لرئيس مجلس الوزراء-لبحث الأمر بعدالة وإيقاف هذا العبث بعقول أطفالنا الأبرياء الذين نضع في أعناقهم مستقبل مصر.
***الأستاذ الكبير أسامة سرايا-رئيس تحرير الأهرام شكرا علي مقالكم القيم المنشور صباح الجمعة الماضي بعنوانأزمة معبر رفح..وخطايا حماس والذي وضع كثيرا من الأمور المسكوت عنها في نصابها الصحيح.