فضيحة استيلاء نبيل البوشي علي أموال مجموعة من المصريين ليست فضيحة لنبيل البوشي وحده,لكنها فضيحة لسائر المودعين الذين أعطوه أموالهم,منساقين وراء وهم تحقيق مكاسب خيالية لا تمت للواقع الاقتصادي السليم بأية صلة…وأنا أرفض تماما وصف أولئك المودعين بالضحايا, وهو ما دأبت الصحافة والإعلام علي نعتهم به,لأنهم ليسوا ضحايا البوشي علي الإطلاق,بل هم ضحايا الفساد والجشع والغباء الذي حاق بهم ودفعهم إلي ذلك المصير الذي لم يعد جديدا أو غريبا علي أي عاقل.
إن العقل لا يستطيع أن يقبل استمرار تكرار سيناريو شركات توظيف الأموال بين الحين والآخر,فإذا كنا نقول إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين,كيف تستمر ظاهرة توظيف الأموال بعد فضائح وكوارث شركات الريان والشريف والسعد والهدي وغيرها وغيرها التي روعت مصر منذ نحو ربع قرن والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من المصريين الذين فقدوا أموالهم والذين ذاقوا الأمرين في سبيل استرجاع النذر اليسير منها بعد بيع أصول تلك الشركات وتوزيع الناتج عليهم؟….كيف لا يزال يوجد بيننا من تراوده أطماعه علي الانجراف وراء دعاوي الأرباح الخيالية ويظل مطمئنا علي رأسماله دون أن يتطرق إليه أدني شك في أنه شريك في مخاطرة غير محسوبة أو مقامرة مجنونة أو خديعة شيطانية؟
ألم يفطن أي من هؤلاء المودعين لدي حصوله علي الدفعة الأولي من الفوائد التي قيل له إنها ناتجة عن استثمار أمواله والتي بلغت طبقا لما أفاد به أولئكالضحايا(!!) نسبا مئوية تفوق كثيرا ما يقبله العقل,إن الأمر لابد أن ينطوي علي شئ غير طبيعي؟…ألم يدق في نفس أي منهم ناقوس إنذار يحذره من الخطر؟…أتصور أن ذلك حدث,لكن للأسف دائما ما يطغي طنين الجشع علي أي ناقوس إنذار,ودائما ما يسكت الطمع نداء العقل والحكمة.
نعلم جميعا أن الاستثمارات لها أصول وبيوت خبرة تعني بها,وصناديق الاستثمار التي تؤسسها وتديرها وتضمنها البنوك والمؤسسات المالية ذات السمعة المحترمة منتشرة,وتعلن عن نفسها وعن نتائج صكوكها كل يوم,كما نعلم أن الاستثمار له درجات متنوعة من سياسات إدارة الأصول,فهناك الاستثمار الآمن الذي يحقق أعلي درجات الضمان لرأس المال,علاوة علي فائدة محدودة,وهناك الاستثمار متوسط المخاطرة الذي يحقق فائدة أعلي مع ضمان أقل للأصول, وهناك الاستثمار عالي المخاطرة الذي يراهن علي تحقيق فائدة عالية غير تقليدية,لكن مع نسبة مخاطرة مرتفعة بالأصول.وفي جميع عمليات محافظ الاستثمار يتولي الخبراء-والخبراء وحدهم-وضع التوليفة المدروسة لحركة المحفظة الاستثمارية وتوزيع أصولها علي درجات الاستثمار المختلفة بنسب دقيقة,مع السهر علي مراقبتها عن كثب والاستعداد للتدخل الفوري لإعادة ضبطها عند الحاجة لتلافي التعثر أو الخسارة…هكذا تعمل صناديق ومحافظ الاستثمار في النور وتخضع للتدقيق والرقابة لضمان أدائها بعيدا عن الاندفاع أو الانفلات أو الفهلوة.
إذن ما الذي يدعو عاقلا يعمل بشرف ويكافح بجد ويكسب ويتحقق لديه فائض في مدخراته يرغب في استثماره أن يترك سائر القنوات الشرعية والبنكية المتاحة ويذهب ليسلم حصيلة تعبه لشخص مجهول أو لشركة غير مضمونة لمجرد,أنه سمع أن ذلك الشخص أو تلك الشركة يصرفون للمودعين لديهم أرباحا خيالية تفوق النسب السائدة في السوق؟…للأسف الإجابة علي هذا التساؤل وردت في بداية هذا المقال:إنه الفساد والجشع والغباء….الفساد الذي يفرز أموالا طائلة تدرها قنوات مشبوهة وأنشطة غير مشروعة يتعذر توجيه حصيلتها إلي البنوك أو إلي قنوات الاستثمار الشرعية,لأنها جميعا أصبحت تقف بالمرصاد أمام عمليات غسيل الأموال ولا تقبل مبالغ مهما عظمت مجهولة المصدر,وبالتالي تنحصر سبل تشغيل تلك الأموال في تجار توظيف الأموال الذين لا يعنيهم مصدرها,بل الحقيقة أنهم يعرفون أنهم يؤدون خدمة غير مباشرة لأصحاب تلك الأموال بقبولهم إياها إما للمقامرة بها أو لتشغيلها في أنشطة مشبوهة لا تختلف عن المصادر التي جاءت منها أصلا.
وبجانب الفساد يأتي الجشع الذي يدعو صاحب المال إلي الانسياق وراء حلم أكبر كسب تحققه أمواله بغض النظر عن وسيلة ذلك الكسب وهل هو ناتج عن عمل وإنتاج حقيقي يبني الاقتصاد ويخدم المجتمع,أم أنه ناتج عنخبطةسريعة أو مضاربة حظ يخطفها ويجري ولا يدري صاحبنا هذا أن طبيعة الأمور أن الخبطات والمضاربات والحظ تكون يوما له ويوما عليه!!
وأخيرا يأتي الغباء وهو أسوأ من الفساد وأخطر من الجشع,لأن أصحابه في كثير من الأحيان تكون لديهم فوائض نظيفة تحققت لهم من عمل مشروع وكفاح مضن,وهم بالقطع يعرفون المصير المحفوف بالخطر لإيداع أموالهم لدي تجار توظيف الأموال,لكنهم بغرابة شديدة وبغباء ملفت يذهبون ليسلكوا ذلك السبيل في مقامرة غبية بأموالهم…وهنا تحضرني مقولة قالها أحد هؤلاء عندما أخذ يعزي نفسه في فقد أمواله في شركات توظيف الأموال فقال:أنا استرجعت فلوسي كلها تقريبا من الفوائد التي صرفتها…مش مهم بقي ضياع الفلوس وعوضي علي الله فيها!!!….أرأيتم مقدار هذا الغباء؟
إن الذين خسروا أموالهم عند نبيل البوشي ليسوا ضحايا أبدا,وآن الأوان أن نسميهم بما يتناسب مع ما سولت لهم أنفسهم أن يفعلوه بأموالهم…وهنا تحضرني تسمية مشتقة من ثقافة هذا العصر…فلنطلق عليهمانتحاريو توظيف الأموال والاستشهاديون الاقتصاديون!!!