من المفهوم أن ينشغل المجتمع بقضايا شائكة لم تحسم بعد في مجالات الحريات والحقوق والمساواة,ومن غير المقلق أن تدور مساجلات وصراعات فكرية بين مختلف التيارات نحو حسم الأمور المعلقة التي تعترض تحقيق المواطنة الكاملة لكل مواطن,لكن أن يتم تصدير تلك الصراعات إلي داخل المؤسسة التعليمية فذلك هو بعينه اللعب بالنار لأنه بمثابة تصدير قيم رجعية متطرفة إلي عقول النشء وعبث خطير بنوعية المنتج الذي تنتجه تلك المؤسسة وتقدمه للمجتمع.
آخر حلقات السلسلة الكئيبة من المشاكل التي لا تنتهي في مدارسنا,حرمان طالبة من دخول امتحان الثانوية العامة ورفض اعتماد الاستمارة التي كتبتها لأنها سجلت أمام خانة الديانة ديانتها البهائية من واقع الثابت في شهادة ميلادها…الطالبة خلود حافظ عبده من مدرسةصن رايزبمصر الجديدة جلست تملأ استمارة التقدم لامتحان الثانوية العامة من واقع البيانات المسجلة في شهادة ميلادها,فكتبت الاسم,واسم الوالد,وتاريخ الميلاد,والجنسية,والديانة ثم استكملت باقي البيانات المطلوبة في الاستمارة وسلمتها للمسئول في المدرسة مثلها مثل باقي أقرانها في الفصل…ولأنها سجلت أمام خانة الديانةبهائيةفقد كتبت إقرارا بأنها سوف تتقدم لامتحان الدين الإسلامي في مادة الدين-فهي تعلم أن ورقة امتحان الدين في مدارسنا إما للدين الإسلامي أو للدين المسيحي فقط ولا يوجد غير ذلك -فماذا حدث؟
رئيس المرحلة الأولي للثانوية العامة بالكنترول المركزي رفض اعتماد استمارة خلود ولم يسجل لها رقم جلوس في الامتحان وشطب اسمها من سجلات الطلبة المتقدمين لامتحان الثانوية العامة وأعاد الاستمارة إلي المدرسة,فما كان من المدرسة إلا أن أبلغت والدها بما حدث,فذهب الوالد لمقابلة رئيس الكنترول المركزي وهو منزعج علي مصير ابنته ليفاجأ بالمسئول يقول له:لو مش مسلم مالكش حاجة عندي,وبنتك حاتتحرم من دخول الامتحان!!!
وقبل أن أخوض في مناقشة حق هذا المسئول فيما فعل والمدلولات الخطيرة المترتبة علي ذلك أقول:الثابت أن الطالبة خلود قامت بملء بيانات استمارة التقدم للامتحان من واقع البيانات المسجلة في شهادة ميلادها والتي تتضمن ديانتها البهائية,فهل كان عليها أن تغير من هذه البيانات لإرضاء مسئول الكنترول؟وهل يوجد في الاستمارة ما يمنعها من تسجيل ديانتها البهائية ويحذرها من مغبة ذلك؟…هذا من الناحية الإجرائية,أما من جهة المعتقد وحرية الاعتقاد التي كفلها الدستور,كيف نطلب من طالبة تعرف معتقدها وتتمسك به أن تتنكر له أو تتنازل عنه؟ألا يكفي وزارة التربية والتعليم وإدارة الامتحانات والكنترول المركزي إقرارها بأنها سوف تتقدم لامتحان الدين الإسلامي؟هل نصبت الوزارة نفسها فاحصة للقلب والضمير وقررت قبول ورفض الطلبة تبعا لما يعتقدون؟…إننا نقف أمام مشكلة كريهة أصبحت متفشية في المجتمع ومؤسساته الرسمية عندما تتجاوز دورها ولوائحها ونظمها وتستسلم لانفلات بعض العاملين فيها عندما يخلطون بين واجبهم الوظيفي وانتماءاتهم الشخصية وقناعاتهم ومعتقداتهم فيفرضونها علي من يتعاملون معهم…وإذا سولت لأحد المديرين نفسه لفعل ذلك,كيف تقف المؤسسة التي يعمل فيها متفرجة علي فعلته, وكيف لا تسارع إلي ردعه وتصحيح الأمر فورا؟….هل تحرم الطالبة خلود من دخول امتحان الثانوية العامة لأنها بهائية؟…إن ذلك لو حدث ليعد أمرا مشينا في حق التعليم المصري ولتحولت وزارة التربية والتعليم إلي وزارةالرباية والتطرف!!!
بالأمس القريب أصدر القضاء المصري حكمه في قضية تسجيل الديانة البهائية في بطاقات الرقم القومي,وبالرغم من أن الحكم لم يقر إدراج البهائية كديانة في البطاقات إلا أنه احتراما لحرية الاعتقاد التي كفلها الدستور أقر ترك خانة الديانة شاغرة للبهائيين,-الأمر الذي اعتبرته خطوة إيجابية للأمام نحو ترسيخ حرية العقيدة-لكن أبدا لم يصادر القضاء علي حق البهائيين فيما يعتقدون ولم يعتبرهم مواطنين غير كاملي المواطنة أو يستحقون أن يحرموا من أي حقوق مكفولة للمواطن المصري..فكيف يجرؤ مسئول في وزارة التربية والتعليم علي مصادرة حق طالبة بهائية في دخول الامتحان إلا إذا زورت في بيانات شهادة ميلادها وكتبتمسلمةلإرضاء سيادته؟
إن ملف الأمور المسكوت عنها يمتلئ بالكثير الذي يخص وزارة التربية والتعليم حتي أن صناعة التعليم باتت صناعة للتطرف المقيت,والمؤلم أننا بدلا من أن نحلم بتطوير هذه الصناعة لإنتاج عقول متفتحة مبدعة حرة قادرة علي قيادة هذا البلد نحو اللحاق بركب التقدم العالمي,أصبح أقصي ما نحلم به هو انتشال صناعة التعليم من التخلف والظلام والاستبداد وأحادية الفكر…إنها مأساة فعلا,فلم نكد نفرغ من فضيحة الطفلين أندرو وماريو المسيحيين اللذين أجبرتهما الوزارة علي امتحان الدين الإسلامي الذي لم يدرساه لمجرد علمها أن والدهما أشهر إسلامه,فما كان منهما إلا أن كتبا في ورقة الإجابةأنا مسيحي وتركا الورقة بيضاء,حتي دخلنا بعد ذلك في فضيحة اضطهاد إحدي المدرسات المسلمات في مدرستها لأنها رفضت ارتداء الحجاب,وها نحن ننتقل إلي فضيحة حرمان طالبة بهائية من دخول امتحان الثانوية العامة بسبب معتقدها…والبقية تأتي طالما ترك التعليم ليتحول إلي أعتي صناعة للتطرف في مصر.