بينما يخضع مشروع القانون الموحد لبناء دور العبادة لنقاش مستفيض تشارك فيه جميع القوي الوطنية ووسائل الإعلام, تجري وسط ذلك محاولات مقلقة لاختطافه من جانب المتشككين والمتشددين وحتي المتطرفين…فالقانون الذي طال انتظاره وطالبت به دوائر كثيرة وألح في طلب إصداره المجلس القومي لحقوق الإنسان, ما أن أعلنت المسودة الخاصة به- سواء المنسوبة إلي وزارة العدل أو اللاحقة لها المنسوبة إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة-حتي انفجرت موجات تنتقده وترفضه وتشجبه ووصل الأمر بالبعض أن أعلن لجوءه إلي القضاء لإيقاف صدوره!!!…وكأن القانون ابتكرته فجأة الأجهزة المسئولة وفوجئت به الأوساط الشعبية!!
هذه المبالغات الانفعالية لاتستقيم مع واقع الاحتياج الشديد لهذا القانون, ويجب الاعتراف بأن إقدام الأجهزة المسئولة علي إصداره إنما كان نزولا علي المطالب الملحة للكثيرين, كما يجب التفرقة بين الإنجاز السياسي والوطني الذي يتحقق بصدوره وبين التفاصيل التنفيذية التي تحكم تفعيله, فليس هناك مانع من الترحيب بالقانون والموافقة المبدئية عليه في إطار ما يحققه من إزالة كل أشكال التفرقة والفرز التي كانت قائمة بين المصريين في مسارات بناء وصيانة دور العبادة, وفي نفس الوقت يصح أن تخضع الشروط التنفيذية الواردة في مواده للفحص والتدقيق والتعليق حتي نضع أمام الأجهزة المسئولة شتي الملاحظات الكفيلة- إذا تم أخذها في الاعتبار- بإصدار القانون في شكله النهائي معبرا عن احتياجات الناس, ميسرا لشئون دور عبادتهم, مرسخا للمواطنة والمساواة بينهم…وبذلك نضمن تطبيقه وتفعيل مواده دون عراقيل.
ولعل من الأمور الواجب إدراكها أن ما يجري علي الساحة من نقاش وجدال بشأن القانون إنما مرده غياب مجلسي الشعب والشوري عن الجسد التشريعي في الوقت الحالي, فالمألوف أن مناقشة مشروعات القوانين كانت تجري تحت قبة المجلسين بواسطة نواب الشعب, أما الآن فتلك المهمة ملقاة علي عاتق القوي الوطنية بمختلف تياراتها وتوجهاتها ومنابرها, وقد يكون من المنطقي إزاء قانون دور العبادة علي وجه التحديد أن تتولي المؤسسات الدينية المعنية بدور العبادة إخضاعه للفحص والدراسة وتقديم مذكرات رسمية تحمل تعقيباتها عليه إلي الأجهزة المسئولة حتي يسهل حصر تلك التعقيبات وإدخالها علي القانون أو تضمينها لائحته التنفيذية.
أقوك ذلك لأن المتابع لما يتعرض له مشروع القانون في الوقت الحالي سوف يلحظ ردود أفعال تحمل تباينا شديدا في المواقف وتفرز لغطا وجدالا يصل إلي حد العراك ويتجاوز موضوع القانون إلي حد اختطافه من الساحة الوطنية إلي الساحة الأصولية المتطرفة, وبدلا من فحصه من حيث التطبيق يتم إخضاعه عنوة للفحص من حيث تباين العقائد ووصاية الأغلبية علي الأقلية وغير ذلك من الحساسيات شديدة الخطورة التي تفرغ القانون من مضمونه الخاص ببناء دور العبادة لتحل محله التربص المقيت بالأقليات الدينية وإحياء الماضي المرير لفرض السطوة عليها.
بطبيعية الحال يجب أن تكون هناك ملاحظات للكافة حول سلطة المحافظين والضمانات التي تكفل عدم إساءة استخدامها, وحول كثافة السكان في المنطقة محل طلب بناء دار العبادة وكيفية حصرهم وحدود استحقاقهم من عدمه, وحول المسافات المنصوص عنها للفصل بين دور العبادة المتماثلة, وحول المساحة التي لا تقل عنها قطعة الأرض موضوع البناء…كل هذه الأمور وغيرها من الجائز أن تتبلور بشأنها رؤي بديلة أو معدلة وتكون محل اعتبار الأجهزة المسئولة عند إصدار القانون. أما ما يقلق ويحمل في طياته شبهة اختطاف القانون وافتعال معارك بين المصريين بسببه فيتمثل في الآتي الواجب التبصير به لتجنبه:
**جاء في سياق مسودة القانون المنسوبة إلي وزارة العدل ضمن المادة الثالثة منها النص علي تحديد مصادر تمويل دار العبادة المطلوب الترخيص بها…وقد تربص البعض بهذا النص وقاموا باختطافه لإثارة التساؤلات حول مصادر تمويل بناء الكنائس, ثم مضوا في غيهم نحو طلب إخضاع أموال الكنائس لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات…وبالرغم من افتضاح مآرب هؤلاء وإصرارهم علي إخراج القانون من السياق الموضوعي, إلا أنه يلزم إيضاح أن مؤسسة الكنيسة ليست مؤسسة رسمية تابعة للدولة تمول من أموال دافعي الضرائب وبذلك تخضع للرقابة المالية للجهاز المركزي للمحاسبات, بل هي مؤسسة أهلية خاصة تمول من تبرعات شعبها بالإضافة إلي عوائد أوقافها ولها في داخلها أنظمتها المالية والرقابية ولايمكن إخضاعها للرقابة من جانب الدولة.
**في حوار تليفزيوني تم بثه مساء السبت 18يونية الجاري من خلال برنامج أنا المصري وكان مخصصا لمناقشة بنود القانون الموحد لبناء دور العبادة, فوجئت بأن ضيف البرنامج الأستاذ ممدوح إسماعيل المحامي- الذي قدم نفسه علي أنه المحامي في قضايا جماعة الإخوان المسلمين- دأب علي استدراج البرنامج وضيفيه الآخرين- الأستاذ كمال زاخر والأستاذ نبيل شرف الدين-خارج موضوع المناقشة للحديث عن الإسلام والعقيدة وعدم احتياج الأقباط إلي تشريع ينظم بناء دور عبادتهم!!…كما بذل قصاري جهده إلي تحويل دفة الأمور إلي الخلافات العقائدية الأمر الذي استنزف متابعة المشاهدين واستفزهم…وحينما عاد الأستاذ ممدوح بعد جهد إلي سياق الموضوع أتي بآراء غريبة جدا وعدائية ومتربصة بالأقباط وكنائسهم تدل علي أن هناك من التيارات المتشددة التي ماتزال تصر علي عرقلة ترسيخ معايير المواطنة والمساواة بين المصريين. فقد دعا إلي حصر جميع مساحات الكنائس والأديرة في مصر لإثبات أن الأقباط عندهم الكفاية ولايحتاجون إلي المزيد من الكنائس!!!…متناسيا ومتجاهلا أن الأديرة تقع في مناطق نائية يتعذر الوصول إليها إلا في المناسبات الخاصة ولاتعد أماكن للصلاة المنتظمة للشعب القبطي, كما أن المساحات الكلية التي تشغلها الأديرة ليست مشغولة بالكنائس وأماكن الصلاة, بل معظمها مساحات مخصصة لإقامة الرهبان والخدمات والأنشطة الخاصة بإعاشتهم, فكيف يستقيم إثارة ذلك الأمر الذي يفضح النوايا الخفية لاختطاف قانون بناء دور العبادة؟!!!…ثم ما العمل في احتياج الأقباط إلي كنائس في سائر المجتمعات العمرانية الجديدة التي يسكنونها مع إخوتهم المسلمين…هل يتم تلبية هذه الاحتياجات أم إحالة أولئك الأقباط إلي الأديرة؟!!!
**المؤسف أن مثل هذا الجدال العقيم لا طائل من ورائه إلا إفساد التلاحم الوطني الذي نشأ وترسخ بين المصريين منذ بداية هذا العام ونما في أحضان ثورة 25 يناير…وأخشي ما أخشاه أن يؤدي ذلك الجدال إلي مقارعات غبية تصرفنا عن الطريق الصحيح…فماذا لو خرج البعض ملتقطا هذا المنطق المغلوط ومناديا بحصر جميع مساجد وزوايا ومصليات مصر مضافا إليها مساحات الأرصفة والشوارع والأزقة والساحات ومداخل المباني وصالات المصاعد بأدوارها لبيان ما إذا كانت تكفي احتياجات المسلمين في الصلاة؟!!…أليس ذلك هزلا سخيفا يؤدي إلي شق الصف الوطني بينما نحن نناقش قانونا لبناء دور العبادة؟!!