لست ضد كشف أوجه الفساد في مجتمعنا لحصاره في إصلاح الخلل المترتب عليه, لكني ضد أي شكل من أشكال العبث باستقرار المجتمع أو تهديد التنمية الاقتصادية فيه, لأن أمام تعثر وتباطؤ الإصلاح السياسي ليس أمامنا سوي الإصلاح الاقتصادي لنراهن عليه من أجل انتشال البائسين والمطحونين ومنحهم الأمل في غد أفضل يتطلعون إليه وينتظرونه.
ومهما تشدقنا باحترام أحكام القضاء وعدم التعرض لها بالنقد يجب أن نعترف أن حكم القضاء الذي صدر الشهر الماضي قاضيا بإبطال عقد مشروع مدينتي قد ألقي قنبلة مروعة عصفت باستقرار سوق الاستثمار وألقت بالرعب في قلوب المستثمرين وجعلت الكثيرين يقفون فزعين إزاء ما قد يحيق بهم وباستثماراتهم من جراء شبهة انطباق هذا الحكم علي مشروعاتهم.
رجال أعمال ومستثمرون يعدون بالآلاف اعتقدوا أنهم اتبعوا صحيح القانون ولم يلجأوا أبدا إلي الالتفاف حول التشريعات, تقدموا بمشروعاتهم للأجهزة التابعة للمجتمعات العمرانية الجديدة – التي تحكمها لوائح واضحة – فتم تخصيص أراض لمشروعاتهم وجاء التخصيص مشروطا بحدود زمنية محددة يلتزم المستثمر بعدم تجاوزها في تنفيذ المشروع الذي تقدم به والمخصصة الأرض من أجله.. وأقام المستثمرون مشروعاتهم وأنفقوا الاستثمارات المخصصة لها وخلقوا فرص العمل للمصريين المتعطشين لها واستقرت مشروعاتهم وإنتاجهم.. هولاء المستثمرون استيقظوا فجأة علي حكم للقضاء يسجل أن أجهزة الدولة أخطأت في اتباعها سياسة التخصيص المباشر وأنه كان عليها اتباع لوائح قوانين المناقصات والمزايدات في منح أراضي الدولة للمستثمرين ترسيخا للعدالة وتكافؤ الفرص والشفافية.. وأصابهم الرعب أن سيف القصاص نازل عليهم لا محالة!!!
إذا الحكم يتناول رؤية القضاء إزاء السياسة التي اتبعتها الأجهزة التابعة للمجتمعات العمرانية الجديدة, وفي هذا الإطار تنحصر آثار الحكم في مراجعة ومحاسبة هذه الأجهزة عن السياسات التي اتبعتها لتخصيص الأراضي, حتي إذا ثبت أنها أخطأت تتحمل تلك الأجهزة مغبة خطئها ويتم تصحيح الأساليب الواجب اتباعها فيما سوف يتم تخصيصه من أراض بعد تاريخ الحكم.. لكن نجد أننا نقف أمام مفارقتين تستلزمان التفسير ولا يستقيم معهما المنطق فيما حدث.
المفارقة الأولي أن هناك بالفعل تضاربا في التشريعات الحاكمة لتخصيص الأراضي يدعونا للتريث قبل اتهام أجهزة المجتمعات العمرانية الجديدة بمخالفة صحيح القانون, فالآن – والآن فقط – وبعد انفجار قنبلة الحكم الأخير في وجوهنا وآثارها المدمرة علي سوق الاستثمار, نسمع من الدكتور مفيد شهاب أنه لابد من استحداث نص تشريعي يحسم التضارب بين قانون عام يستلزم طريقة واحدة للتعاقد – هي طريقة المناقصات والمزايدات – وبين قانون هيئة المجتمعات العمرانية وقانون التنمية السياحية وغيرها من القوانين التي تسمح بالتعاقد بالأمر المباشر.. وهنا يستشف من تصريح الدكتور شهاب أنه لم تحدث مخالفة من جانب أجهزة المجتمعات العمرانية الجديدة في تخصيص مساحة مشروع مدينتي للشركة القائمة علي المشروع, بل استخدمت هذه الأجهزة الأدوات القانونية المتاحة لها والتي استهدفت التيسير والتشجيع للمستثمرين علي اقتحام مجالات غير مطروحة للاستثمار في قطاعات التنمية العمرانية والسياحية.
ولعل الأمانة تقتضي عدم الاقتصار علي تسليط الأضواء علي مشروع مدينتي اليوم بعد أن أصبح قبلة الباحثين عن فرصة عمل وقبلة الساعين لامتلاك سكن أو خدمات متصلة بالسكن, إنما العدالة تقتضي الرجوع إلي الوراء عدة سنوات عندما اقتحم هذا المشروع بجرأة تحسب له أرضا بكرا تفتقر إلي سائر معايير التنمية العمرانية, فلا تقسيم عمراني ولا شبكات طرق ولا مرافق ولا أية تسهيلات.. اقتحم هذا المشروع المجهول بكل صعوباته وتحدياته ونجح في تحويل الصحراء إلي مجتمع عمراني حديث بكل ملامحه وخدماته واجتذب مئات الآلاف من حاجزي الوحدات السكنية والخدمات بناء علي الإنجاز الذي تحقق علي الطبيعة واستنادا إلي الثقة التي ترسخت بين المواطنين والشركة المستثمرة علي ضوء ما حققته في مشروعها الذي سبق مشروع مدينتي وهو مشروع الرحاب الذي يعد بحق علامة من علامات التنمية العمرانية المتكاملة للطبقة المتوسطة في وقت عز فيه الاستثمار الخاص من أجل الطبقة المتوسطة وانحاز سائر المستثمرين إلي العمل في منتجعات الأثرياء.
والآن, والآن فقط يتحدث الجميع عن المكاسب الهائلة التي حققها مشروع مدينتي, لكنهم لا يتحدثون عن مئات الملايين من الاستثمارات التي ينفقها المشروع بمعدل مستمر لإنجاز هذه المدينة الجديدة المضافة إلي الخريطة العمرانية الجديدة لمصر.. وهم لا يتحدثون أيضا عن مئات الآلاف من فرص العمل التي خلقها هذا المشروع في وقت تتوالي فيه التقارير الرمادية عن تصاعد نسب البطالة والتعطل عن العمل في مصر.. الجميع يتناسي ضريبة اقتحام المجهول وتأسيس المشروعات ويركزون فقط علي الثمرة المحققة وكأنها غير مستحقة وغير عادلة!!
علي من يستعصي علي إدراكه التقييم المنطقي العادل لهذه الصورة أن يتأمل سائر مناطق التنمية السياحية في بلادنا – والتي خضعت مشروعاتها لذات القوانين الخاصة بتشجيع المستثمرين مثل ساحل البحر الأحمر وجنوب سيناء والساحل الشمالي وغيرها.. والتي يشهد القائمون عليها وهم ينظرون إلي الوراء سنوات عديدة عندما كانت تلك المناطق بكرا وغير مطروقة, أنه لولا التسهيلات والحوافز التي منحوها للمستثمرين ما كانت التنمية والرواج وفرص العمل والانتعاش التي تشهدها هذه المناطق الآن.
أما المفارقة الثانية التي انطوي عليها حكم المحكمة فهي إنزال القصاص علي مشروع مدينتي وكأنه لم يكن.. وكأن الواقع الذي تم إنجازه علي الطبيعة ليس له حساب.. وكأن مصالح الأطراف المشتبكة في المشروع لا وزن ولا قيمة لها.. مصالح المستثمرين ومصالح العاملين ومصالح المواطنين حاجزي الوحدات السكنية والعقارية.. كيف يمكن غض البصر عن كل ذلك بدعوي تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص والحرص علي مصلحة الدولة؟!.. ولا غرابة أن نسمع بعد ذلك – في معرض علاج الآثار المدمرة التي ترتبت علي هذا الحكم – عن اعتزام هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة إعادة بيع الأرض إلي ذات الشركة مرة أخري باتباع إجراءات الاتفاق المباشر استنادا لحالة الضرورة ولتحقيق الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية التي تقتضيها المصلحة العامة, ولتقنين أوضاع كل من يتضررون من آثار ذلك الحكم.
الضربة الموجهة لمشروع مدينتي ليست الأولي ولا الوحيدة من نوعها, ولست أدري ما هو رأي القائمين علي أحوال سوق الاستثمار في بلدنا إزاء اهتزاز واضطراب هذه السوق بين الحين والآخر؟!!