احتفلنا في يوليو الماضي باليوبيل الذهبي-مرور نصف قرن- علي مولد ثلاثة صروح عملاقة تركت بصمة واضحة علي بلادنا وساهمت في تغيير حياة المصريين:أولها السد العالي, وثانيها التليفزيون, وثالثها استاد القاهرة…هذه الصروح الثلاثة أطلقت الشرارة الأولي لبدء العمل فيها أو افتتاحها عام1960 وكانت علامات قوية للتنمية والتقدم, كل في مجاله, وجاءت مناسبة الاحتفال بمرور خمسين عاما علي إطلاقها فرصة لرصد وتقييم الإنجاز الذي تحقق من ورائها مع كشف حساب مالها وما عليها, بالإضافة إلي استشراف رؤي المستقبل بما تحمله من طموحات وآمال.
اليوم أتحدث عن ثالث هذه الصروح العملاقةاستاد القاهرة فهذا الصرح له رصيد كبير عزيز في ذاكرة جيلي من المصريين الذين عاصروا إنشاءه وافتتاحه وافتتان المصريين به, علاوة علي ارتباطه بحشد هائل من المباريات والمهرجانات وأعياد الشباب, وغيرها من المناسبات التي ألهبت الروح الوطنية وأسهمت في تعزيز روح الانتماء لمصر.
استاد القاهرة كما يقولون غني عن التعريف لكن ما لا يعرفه كثير من المصريين أنه لم يكن مخططا أن يجلس وحده في هذه البقعة من صحراء مدينة نصر, بل كان اللبنة الأولي في مشروع حضاري عملاق لإنشاء مدينة أوليمبية ومدينة معارض تزهو بهما مصر بين دول العالم. وبالفعل صارت خطة إنشاء هذه المدينة- سواء علي مستوي المدينة الأوليمبية أو مدينة المعارض-بخطوات حثيثة جادة, حققت الجزء الأكبر من المخطط الأصلي الذي خضع للتطوير والتحديث عبر السنين, تبعا لتغير الاحتياجات ومواكبة التقدم. فهناك استاد السباحة الأوليمبي, وهناك الصالة المكشوفة للألعاب الرياضية والعروض المسرحية…هذان المشروعان الفريدان في إمكانياتهم الرياضية وتصميمهما وطابعهما المعماري الجذاب تم افتتاحهما في منتصف ثمانينيات القرن الماضي, كما أضيف بعد ذلك المشروع الكبير للصالة المغطاة ومشروع مجمع ملاعب الإسكواش قبل نهاية القرن.
المتأمل لهذا التجمع الرياضي الضخم وما آل إليه اليوم من رصيد الإسهام في حياتنا الرياضية سيجد تباينا كبيرا في الدور الذي يؤديه كل عنصر من عناصره, فاستاد القاهرة يأتي في الصدارة بطبيعة الحال لارتباطه بنشاط كرة القدم اللعبة الشعبية الأولي, ولذلك يستحوذ علي نصيب الأسد من الأضواء ومشروعات التحديث والتطوير. ثم تأتي بعد ذلك الصالة المغطاة التي تشهد كثيرا من المنافسات الرياضية وبعض الاحتفالات متجاوزة في الدور الذي يؤديه العملاقان اللذان سبقاها, وهما استاد السباحة والصالة المكشوفة اللذان لا نسمع شيئا مطلقا عن أي أنشطة لهما. وحتي أصغر الأعضاء سنا وحجما في هذه الأسرة الرياضية وهو مجمع الإسكواش بات راقدا في الظل بعد فترة قصيرة من افتتاحه, وبعدما سرقت منه الأضواء سائر بطولات الإسكواش التي يتم تنظيمها بالاستعانة بالملاعب الزجاجية الحديثة, سواء كان ذلك تحت سفح الأهرامات في الجيزة أو في مدينة الغردقة.
المحصلة أن هذه الصورة تحمل قدرا غير قليل من الإحباط إذا أدركنا أننا أنفقنا مئات الملايين من الجنيهات لإنشاء مرافق رياضية ضخمة تمتلك إمكانيات هائلة دون أن نستخدمها الاستخدام الأمثل الذي كان مخططا لها…وها نحن نتركها مهملة- بل تكاد أن تكون مهجورة – ينخر الزمن والنسيان في عظامها حتي يأتيا عليها, وكلنا يعرف أن ترك المنشآت بلا استعمال وبالتالي بلا صيانة وتجديد هو الشيطان الذي يقضي عليها.
إن امتلاك منشآت مثل استاد السباحة والصالة المكشوفة يطرح تساؤلات مهمة عن خطط الأجهزة المسئولة في الدولة بخصوص استخدامها الرسمي- أو حتي التجاري- نحو استضافة المنافسات الرياضية والفنية كل من مجاله, فأين أنشطة السباحة والغطس بشتي أنواعها وكرة الماء والسباحة التوقيعية؟….لماذا لا نسمع عن إقامتها في استاد السباحة؟…وأين أنشطة رياضات الملاعب الصغيرة-كرة اليد والسلة والطائرة والتنس-والعروض الفنية والمسرحية, وحتي مبارزة سلاح الشيش, فكلها أنشطة لا نسمع عن إقامتها في الصالة المكشوفة المجهزة لها؟…ولماذا يجمد استخدام مجمع ملاعب الإسكواش ومجمع ملاعب التنس الملحق به؟…إن المرء يتحسر علي هذه الصروح التي تقف عديمة الفائدة وتترك تذوي وينال منها الهجر والإهمال حتي يكاد يقضي عليها بينما الأضواء مسلطة علي استاد القاهرة ومن بعده الصالة المغطاة وحدهما…ألا يوجد في الدولة جهاز- وليكن الجهاز المركزي للمحاسبات-يتولي تقييم الجدوي الاقتصادية لهذه المنشآت؟ وما هو العائد الاقتصادي المحقق من وراء تشييدها؟…لعل ما يتكشف من جراء ذلك يجسد هول المأساة ويدفع الأجهزة المسئولة عنها لإعادة النظر في أمر تركها عاطلة عن العمل تشيخ وتضحمل قبل انقضاء العمر الافتراضي لها.
لست أعرف ماذا يحدث خلف أسوار استاد السباحة الذي يلفه الصمت, لكنني أرقب باستمرار الظلام الذي يغلف الصالة المكشوفة ومجمع الإسكواش باعتبارهما مطلين علي طريق صلاح سالم الذي أسلكه بمعدل شبه يومي…وكان مما استرعي انتباهي مؤخرا في شهر رمضان تشغيل الأضواء الكاشفة في الصالة المكشوفة في بعض الليالي, وطبعا لفت ذلك نظري لاختلافه عن المألوف, وقلت يا تري ماذا وراء ذلك؟…هل مجرد نشاط مؤقت أو حفل سمر عقب إفطار رمضان؟…أم مؤشر لعودة الروح إلي ذلك المشروع الكبير؟…
إن حسرتي علي هذه الثروات التي يتم تبديدها وترقد في الظل مسكوتا عنها لا يضاهيها سوي صرخة أطلقها في عام اليوبيل الذهبي لاستاد القاهرة نحو إنقاذ المنشآت المكملة له في المدينة الرياضية من التآكل والضياع.