11 ديسمبر ..1981
11 ديسمبر ..2011
مائة عام ولد وعاش ومات فيها أديب مصر العالمي نجيب محفوظ تغير فيها كثيرا واقع المجتمع المصري (سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا) وظل إبداع أستاذنا الكبير حيا في العقول والقلوب معبرا ومهموما بآلام الشعب المصري وآماله.. وهو إذ يغوص في واقع المجتمع , فإنه يستحق عن جدارة الخروج بهذه المحلية إلي العالمية كما جاء في حيثيات الأكاديمية السويدية عام 1988 – عام حصوله علي جائزة نوبل للآداب إن أعماله الثرية بشخصياتها المتنوعة عكست الواقع كما هو , وبما احتوته من تعددية موحية, وأنه ارتقي بالفن الروائي العربي إلي مستوي العالمية لقد حصل علي الجائزة من مجمل أعماله الأدبية التي تصور واقع الحارة المصرية في القاهرة في فترة ماقبل ثورة 1952 وما بعدها.
وقد اهتمت وزارة الثقافة بهيئاتها االمختلفة أن تطلق علي عام 2011 عام نجيب محفوظ, وتتوج الأنشطة علي مدار هذا العام باحتفالية كبيرة اليوم 11 ديسمبر 2011 (مرور مائة عام علي ميلاده) والتي تنطلق اليوم في أماكن وجهات متعددة بمصر…
من ذاكرة التاريخ
* ولد نجيب محفوظ في القاهرة في 11 ديسمبر عام .1911
* تلقي تعليم في مدرسة الحسينية الابتدائية, ثم مدرسة فؤاد الأول الثانوية.
* أمضي طفولته في حي الجمالية حيث ولد, ثم انتقل إلي العباسية والحسين والغورية, وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت.
البعد الروحي والديني
ظلت الذات الإنسانية محور اهتمام أديبنا العملاق, فظل يكتب باحثا عن قيم الحق الخير والعدل والحرية التي نتوق إليها جميعا, والذات في أعماله دائما قلقة لا تهدأ ولا تستريح.. تبحث لها عن وجود حقيقي يضعها علي خريطة العالم, وفي رحلة البحث هذه قد تخطيء وقد تصيب, وقد تسلك سلوكا حسنا طيبا وقد تسلك سلوكا رديئا.. تارة تتضرع إلي الله علها تجد الخلاص من هذا العالم الموحش القاسي, تارة أخري تتردي في حمأة الخطيئة… إنها ذات ضائعة تحاول الفكاك من أقدارها..
ولعل تمركز محفوظ حول الذات ومصيرها المحتوم قد يرجع- في تقديري- إلي دراسته الفلسفية من ناحية , وتأمله الشديد للعالم ومجريات الأمور من حوله من ناحية أخري.
والقاريء لإبداع نجيب محفوظ يقف علي بعدين أساسيين:
أولهما: الشقاء الإنساني علي اختلاف أنواعه.
ثانيهما: اللجوء إلي الملاذ الأوحد والأعظم.
إن هذين البعدين جعلا أعمال محفوظ أعمالا إنسانية خالدة تتخطي حدود الزمان والمكان, علي أن البعد الديني احتل مكانة خاصة في عقل ووجدان محفوظ منذ البداية, وقبل أن يبدأ رحلته الإبداعية برواية عبث الأقدار عام 1939, من هذا ما تقرأه في مقال له بعنوان الله.
تشهد حياة الإنسان منذ النشأة الأولي التي عرفها العلم والتاريخ بأن الدين كان ولايزال عنصرا جوهريا فيها, يقوم بدوره الجليل في صدر الإنسان وضميره, ويمتد أثره إلي ميدان المجتمع الفسيح فلايدع ظاهرة من ظواهره إلا ويؤثر فيها ويضيفي عليها من لونه, ولذلك كانت فكرة الله وهي محور الدين وروحه أكبر مايثير الشغف ويغري بالاطلاع.. وما من مفكر أو عالم إلا وقد تعرض لها وكان له عنها رأي أو اعتقاد…
(الله- مقال- المجلة الجديدة- العدد الأول- السنة الخامسة- يناير 1936- ص 43:48)
حوار متجدد
في لحظة ما من الزمن في القرن الماضي تحدد محل إقامة الرجل المحفوظي الجميل بغرفة العناية المركزة بمستشفي الشرطة بالعجوزة ممددا علي سرير تكتنفه أجهزة الرعاية الطبية من أعلي وأسفل .. أراه هنا علي أثر الطعنة الغادرةالتي أجهضها الله.. أراه هنا في هذه اللحظة الفاصلة في حوار متجدد مع الله.. هذا الحوار الذي طالما عهدناه في أعماله الأدبية.
يتجدد هذا الحوار في رواية الطريق فصار في هذه الرواية البطل يؤرقه البحث عن أبيه ونجده في سبيل ذلك سلك طرقا مختلفة .. يصيب ويخطيء.. يتزرع بالأمل حينا وتتهاوي إرادته في أحايين كثيرة.. إن فقدانه لأبيه يذيقه مرارة العوز المادي والروحي فيسرق.. ويزني.. ويقتل وتنتهي حياته نهاية بشعة.. وكأني نجيب محفوظ يقرر حقيقة إيمانه ألا وهي : عندما يرينا كيف تتعذب الذات البشرية في انفصالها عن طريق الله واختيارها طريقا مغايرا للطريق المؤدية إلي الحياة الأبدية..
يتجدد حوار محفوظ مع الله أيضا في رواية الشحاذ التي تعد علامة في الفن الروائي, وفيها يبحر عمر إيمانه بفن كتابة الشعر والاشتراكية والحب إلي عمله في المحاماة إلي خموله وضجره من عمله وأسرته, وهو يتساءل عن معني حياته.. كيف يستقيم هذا مع بلوغه أبعد غايات النجاح في عمله, ثم هناك زوجته التي تذله في حبه؟ إنه يعاني فراغا ووحشة ويصيح- وهو يملك كل هذا التعم- متسولا, قال له صديقه مصطفي (وهو يضحك لأنه لا يوجد وحتي في عصرنا), فلم يبق لأمثالك إلا التسول. التسول في الليل وفي النهار في القراءة المجدبة والشعر العقيم, في الصلوات الوثنية في باحات الملاهي الليلية.. وفي تحريك القلب الأصم بأشواك المغامرات الجثيمة, وهكذا بدأ عمر تسوله.. مضي يرتاد الملاهي الليلية, ومع ذلك تزداد غربته عن العالم يوما بعد يوم وهو يفاجيء أقرب الناس سؤالهم عن معني الحياة, فعل ذلك مع عشيقته وردة, ومع مسيو يازبك صاحب الملهي, وإن كان هو يعترف بأن السؤال لا يلح عليه إلا حينما يفرغ القلب, فالرنين الأجوف لا يصدر عن إناء ممتليء, ولذلك فالنشوة هي اليقين.. اليقين بلا جدال ولا منطق .. ونجده يصاحب الفشل في رحلة التسول هذه ثم عودته إلي أسرته ليشهد مولد طفلة, فلم يخرج عن غربته الأبدية.. ولم يملأ الوليد الثغرة التي تفصل بينه وبين زوجته, واستمر ينتابه هذا الشعور المقلق الذي يهمس له بأنه ضيف غريب موشك علي الرحيل..تلك هي معالم الشخصية الرئيسية وأزمتها.
وتساؤل عمر عن معني لوجوده يأتي نتيجة لا لأنه صدم في تحقيق حلمه بل لأنه حلم- كما يري- قد تحقق فقد غاية كفاحه وبالتالي فقد معني حياته.. وهكذا فأن الذات البشرية- مهما بلغت من الغني والنجاح والمجد- تظل ضائعة مؤرقة شحاذة إلي الله..
وهذا ما يعترف به عمر في مرحلة لا حقة.
هذا هو نجيب محفوظ الغائب الحاضر الذي اجتمعت علي عشقه- إنسانا ومبدعا- شعوب العالم ومفكروه علي اختلاف فئاتهم.
هذا هو نجيب محفوظ .. الذي اتهم مؤخرا في نزاهة قلمه وحسن الإبداع الإنساني الرفيع القامة, ووصم بالمجون والفساد.. إني إذ أكتب هذه الكلمات – فأنا أعلم علم اليقين أن أصحاب الاتهام – الذي أدانه ظلما وعدوانا- لم ولن يقرأوا إبداع نجيب محفوظ الذي كثيرا ما تتجلي فيه سمات التقوي واللجوء إلي الله اللاذ الأوحد والأعظم…
لن نقول رحم الله نجيب محفوظ (فهو حي بيننا بما تركه من إرث إنساني وحضاري) بل نؤكد حقيقة يرحم الله مصر من مثل هذه الأفكار الهامة المظلمة.