أما المحبة فلأن الله أراد الخلاص للإنسان, رحمة به, ثم لأنه أخذ صورة الإنسان, وقبل في الجسد الذي اتخذه الحكم بالموت. قال المسيح له المجد: ما من حب أعظم من أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه وأنتم تكونون أحبائي (يوحنا 15:13, 14), (10:11, 15). وقال له المجد أيضا: أنا هو الراعي الصالح, والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف (يوحنا 10:11). أنا هو الراعي الصالح… وسأبذل نفسي عن خرافي (يوحنا 10:14, 15). وقال أيضا: لأنه إلي هذا المدي أحب الله العالم حتي إنه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به, وإنما ينال الحياة الأبدية (يوحنا 3:16), (رومية 8:32). وهنا الابن الوحيد لله هو المسيح, لا بمعني أن الله يلد كما يلد الإنسان, معاذ الله! ولكن لأن الله وهو الغير المنظور صار منظورا في المسيح… أي أن العالم رأي الله في المسيح: الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي في حضن الآب (أي في ذات الآب) هو الذي أخبر عنه (يوحنا 1:18). فالمسيح ابن الله بهذا المعني, لأنه هو الصورة المنظورة لله الغير المنظور في لاهوته… ولذلك قال المسيح: من رآني فقد رأي الآب (يوحنا 14:9, 7).
قال الوحي الإلهي بفم القديس بولس الرسول: فإنه لا يكاد يموت أحد لأجل بار, وربما جرأ أحد لأجل الصالح أن يموت ولكن الله بين محبته لنا, لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح من أجلنا. فبالأولي كثيرا ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب. لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه, فبالأولي كثيرا ونحن مصالحون نخلص بحياته. وليس ذلك فقط بل إننا نفتخر بالله أيضا بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة (رومية 5:7-11). ويقول كذلك: اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضا وبذل نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة مرضية (أفسس 5:2). والإيمان بابن الله الذي أحبني وضحي بنفسه من أجلي (غلاطية 2:20). ويقول الوحي الإلهي بفم القديس يوحنا الرسول: بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك (الرب يسوع المسيح) قد بذل نفسه في سبيلنا, فيجب علينا أن نبذل نفوسنا من أجل الإخوة (1يوحنا 3:16). ويقول: بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله أرسل ابنه الوحيد إلي العالم لكي نحيا به. وإنما المحبة في هذا أننا لم نكن نحن أحببنا الله, بل إنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة عن خطايانا (1يوحنا 4:9, 10).
أما عدل الله فقد تجلي في عمل الفداء والكفارة, لأن الله إذ حكم علي الإنسان بالموت (التكوين 2:17), فما كان ممكنا أن يسقط كلام الله: تزول السماء والأرض, أما كلامي فلا يزول (متي 24:35), (مرقس 13:31), ولذلك فإن الله الذي أراد الخلاص للإنسان لم يغفر له بغير كفارة, قام بها الله ذاته في المسيح, إذ اتخذ له جسدا, فنفذ عدل الله في المسيح بدلا من الإنسان, ففدي بذلك الإنسان, وهذا هو معني الفداء… أي أن الله لم يغفر للإنسان من دون ترضية كافية لعدالته. ولكنه من عظم محبته, تنازل فصار هو بديلا عن الإنسان, وبموته في الجسد نفذ الحكم الإلهي كاملا, فأرضي بذلك عدله…
وبهذا يكون عمل الفداء في الصليب, تجلي فيه عدل الله, كما تجلت فيه محبته… ولقد حقق الله الخلاص للإنسان بفيض محبته غير المتناهية, لكن لا علي حساب عدالته… وظهر عدل الله كاملا لكن لا علي حساب محبته.
قال الوحي الإلهي بفم الرسول بولس: متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي تقدم الله فجعله كفارة… بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة (رومية3:24, 25). وقال كذلك: الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح… أي أن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم (2كورنثوس 5:18, 19). وقال أيضا: الذي لنا فيه(أي المسيح) الفداء بدمه غفران الخطايا علي حسب غني نعمته (أفسس 1:7), (كولوسي 1:14). وقال: لأنه هو (يسوع المسيح) سلامنا الذي جعل الاثنين واحدا, ونقض حائط السياج المتوسط, أي العداوة, مبطلا بجسده ناموس الوصايا في فرائض, لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانا واحدا جديدا, صانعا سلاما, ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلا العداوة به… (أفسس 2:14-16), عاملا الصلح بدم صليبه بواسطته (كولوسي 1:20), وأنتم… قد صالحكم الآن في جسد بشريته بالموت (كولوسي 1:21), الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع(1تيموثيئوس 2:6), مخلصنا يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجلنا ليفتدينا (تيطس 2:13, 14), (غلاطية 1:4), (رومية 4:25), (العبرانيين 9:26, 28), (1بطرس 3:18), (1كورنثوس 7:23), عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفني, بفضة أو ذهب… بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس, دم المسيح معروفا سابقا قبل تأسيس العالم, ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم (1بطرس 1:18-20), الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده علي الخشبة لكي نموت عن الخطايا, فنحيا (1بطرس 2:24), يسوع المسيح البار, وهو كفارة عن خطايانا وليس عن خطايانا فقط, بل عن خطايا العالم كله أيضا (1يوحنا 2:2), إن ذاك (المسيح) قد أظهر ذاته لكي يرفع خطايانا, وهو الذي لا خطية فيه (1يوحنا 3:5), (الرؤيا 5:9), وقال في سفر الأعمال: احترزوا لأنفسكم, ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه (أعمال الرسل 20:28).
قلنا إن الأنبياء والرسل القديسين السابقين علي مجئ المسيح الفادي, وصلبه وعمله الكفاري… جميعهم عندما ماتوا نزلوا إلي الجحيم, إلي العالم السفلي, وظلوا هناك منتظرين يوم الفداء…
ولقد هتفوا في حياتهم طالبين الخلاص, لأنهم كانوا يعلمون أن حكم الله وقضاءه علي آدم وذريته كان بالموت الأبدي والهلاك… ولكنهم كانوا موعودين بمجئ الفادي والمخلص الذي يسحق الشيطان رأس الحية (التكوين 3:15), (رومية 16:20), (كولوسي 2:15), (العبرانيين 2:14), (1يوحنا 3:8) وبه تتبارك جميع قبائل الأرض والأمم (التكوين 12:3), (18:18), (22:18), (26:4), (28:14), (أعمال الرسل 3:25), (غلاطية 3:8), وقد سمي بـمشتهي كل الأمم (حجي 2:7).
ولقد قال يعقوب أبو الأسباط: لخلاصك انتظرت يارب (التكوين 49:18), (49:10).
وقال النبي داود: رجوت خلاصك يارب (مزمور 118:166), اشتقت إلي خلاصك يارب (مزمور 118:174), تاقت نفسي إلي خلاصك (مزمور 118:81), كانت عيناي اشتياقا إلي خلاصك (مزمور 118:123).
وقال أحد الأنبياء: أراه ولكن ليس الآن. أبصره ولكن ليس قريبا (العدد 24:17).
وقال الوحي الإلهي بفم القديس بطرس الرسول: الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء (1بطرس1:10).
وقال المسيح له المجد: فالحق أقول لكم إن أنبياء وأبرارا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا, وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا (متي 3:17), (لوقا 10:24). وقال الوحي الإلهي بفم القديس بولس الرسول: في الإيمان مات أولئك كلهم, دون أن يحصلوا علي المواعد, بل إنما رأوها وحيوها عن بعد (العبرانيين 11:13).
فأولئك الأنبياء والرسل والقديسون قبل مجئ المسيح كانوا في حياتهم يتطلعون إلي المخلص الآتي, فلما ماتوا نزلوا إلي الجحيم وظلوا فيه منتظرين إلي يوم الخلاص, حيث صلب المسيح ومات بالجسد, وفي صلبه وموته فدي البشر من الحكم الأبدي المحكوم به علي آدم وذريته, وحينئذ نزل إليهم المسيح وبشرهم بالخلاص, فأشرق علي الجالسين في الظلمة وظلال الموت, في الجحيم (إشعياء 42:7), (متي 4:16), ثم نقل الأنبياء والرسل والقديسين المنتظرين الفداء, إلي الفردوس (لوقا 23:43), (أفسس 4:8-10).
ودليلك علي هذا التوقع والانتظار أن سمعان الشيخ عندما حمل المسيح طفلا علي ذراعيه بعد أربعين يوما من ميلاده بالجسد بارك الله ثم قال: الآن اطلق يا سيدي عبدك بسلام وفقا لكلمتك, فإن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام كل الشعوب (لوقا 2:28-30), وكان ثمة نبية اسمها حنة بنت فنوئيل من سبط أشير, وكانت طاعنة في السن, وقد عاشت مع زوجها سبع سنوات منذ بكوريتها. ثم ظلت أرملة مدة أربع وثمانين سنة, لا تبرح الهيكل, متعبدة بالصوم والصلاة ليلا ونهارا. ففي تلك الساعة تقدمت نحوه, وأخذت تحمد الله بشأنه, وتحدث عنه كل من كان ينتظر الخلاص في أورشليم (لوقا 2:36-38, 25), أنظر أيضا (لوقا 1:68), (3:6), (24:21), (مرقس 15:43).