بعض المدن الإيطالية كان فيها من الآلهة أكثر مما كان فيها من البشر
عصر الدمع والدم.. عصر القسوة والوحشية
في فجر الخليقة عندما سقط آدام وحواء في هاوية العصيان بغواية الحية حكمت عليهما حكمة وعدالة الله بالنفي من فردوس النعيم والنزول إلي أرض الشقاء, بينما حتمت عليه محبته وأبوته لهما أن يفتديهما وذريتهما بالدماء الزكية التي للابن الأزلي, ومن ثم وعد بأن يرسل من نسل المرأة من يأتي لكي يخلص بني البشر ويعود بهم إلي حالتهم الأولي من حيث القداسة والطهارة الخالصة. وهكذا تم الوعد بمجئ المخلص بين الله والناس (تك 3), ولما كان الوعد الإلهي قد تعاهد به الخالق مع أبي البرية فقد ظل هذا الوعد كامنا في أعماق النفس البشرية يملأ حالة اللاشعور عند الناس في كافة أنحاء العالم, ولهذا السبب نقرأ عن الميسا أي المخلص المنتظر في كل الكتب والقراءات الروحية المنبعثة من قلوب الحكماء والفهاء علي اختلاف أجناسهم وتباعد العصور التي عاشوا فيها, وبلغ هذا التطلع نحو المسيا المنتظر ذروته لدي العبرانيين, وفي الوقت عينه ظل صداه يرن رنينا عاليا أو خافتا وسط جميع الشعوب تباعا لحساسيتهم الروحية , وتجاوبهم اللانهائي, وهذا الإدراك المبهم الغامض في أعماق اللاشعور عند معظم الشعوب كان واضحا محدد المعالم لدي المصريين, وسري بريق من نورهم خلال التعاليم العبرية, فتآلف معها وتكون من هذا الانسجام والتآلف الروحي وهج ساطع أنار السبيل للسمو أمام الإنسانية بأسرها, ومن الأمثلة الناطقة بهذه الحقيقة الآية القائلة: ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها (ملا 4: 2), فكل مطلع علي التاريخ القديم يعرف أن الشمس ذات الأجنحة هي مجرد صورة ابتكرها الخيال المصري القديم في تعبيره عن القوي الخارقة غير المنظورة, وإذا ما استنرنا بهذا الوهج وجدنا أنه علي الرغم من أن الشعب المصري كان يتعبد لآلهة وآلهات لا عدد ولا حصر لها, فإن الكهنة والحكماء من بينه كانوا يعلمون علم اليقين أن الله واحد.. فاعترفوا به في جميع مؤلفاتهم الروحية, كذلك أعلنوا عن أملهم في مجئ المسيا المنتظر الذي سيفتدي بني البشر جميعا, وآمنوا بثالوث إلهي إيمانا جعل المستشرق الفرنسي إميلينو يقول بأن روح الله القدوس في دستور الإيمان المسيحي, إنما يقوم مقام الآلهة الأم في علم اللاهوت المصري مستدلا علي ذلك بأن كلمة رواح العبرية التي هي روح في العربية كلمة مؤنثة وأن هذه الرواح الإلهية هي التي كانت في بدء الخليقة تبسط جناحيها علي البيض الذي سوف يخرج من الكائنات ما تتسلل منه ذراريها, وفوق هذا كله فقد تعبد المصريون للأم إيزيس وهي ترفع طفلها حوريس, وهذا الإيمان سطع علي قلوبهم فمكنهم من أن يلمحوا قبسا من نور الديانة المسيحية قبل انبثاقه فعليا.
وتتضح هذه الحقيقة من جميع كتاباتهم الروحية التي تتشابه في كثير من الأحيان وأقوال الأنبياء العبرانيين, وظل المصريون أمناء علي تعاليمهم هذه فتطلعوا علي ضوئها نحو النور الحقيقي, فلما تحققت النبؤات وانبثق النور الذي يضئ لكل إنسان آت إلي العالم امتلأت قلوب بني مصر غبطة واقبلوا علي التعاليم التي طالما ترقبوها واستساغوها لأنهم وجدوها ملائمة لنزعتهم الروحانية, وأن انطلاق الروح المصرية وتجاوبها مع دين السيد المسيح قد أوحي إلي أمير الشعراء أحمد شوقي ببعض أبياته الرائعة, فقال فيها وهو يصف وصول رسل السيد المسيح إلي مصر:
دخلوا تيبة فأحسن لقياهم رجال بتيبة حكماء
فهموا السرحين ذاقوا وسهل أن ينال الحقائق الفهماء
فإذا الهيكل المقدس دير وإذا الدير رونق وبهاء
وإذا تيبة لعيسي وممفيس ونيل الثراء والبطحاء
فليس بعجيب إذن إن هتف النبي: من مصر دعوت ابني (هو 11: 1, مت 2: 15), هكذا تنبأ وهكذا تم المكتوب, وجاء السيد المسيح إلي أرض مصر.. جاءها في دعة وسكون كما يجئ الفجر حين يسري نوره إلي الوجود.. نعم جاء السيد المسيح إلي وادي مصر الرحيب لكي يجد فيها مأوي بقية غدر هيرودس الملك (مت 2: 12-14) وتحقيقا لنبوءة إشعياء النبي جاء الرب يسوع إلي أرض مصر, وحين وطأت قدماه القدسيتان أرض وادينا الحبيب سقطت الأصنام علي وجوهها وتحطمت أمام أعين عبادها فعرتهم حيرة وذهول, ويصف أشعياء النبي تفصيليا ما سيحدث في أرض مصر إذ يعلن الوحي الذي جاءه من العلي بخصوصها فيقول يدخل الرب أرض مصر محمولا علي سحابة خفيفة فتنزلزل أوثانها.. ويقام للرب مذبح في أرض مصر (إش 19: 1, 19), وفسر قداسة البابا العظيم الأنبا كيرلس الأول البابا الإسكندري رقم أربعة وعشرون في عداد بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية, ما تنبأ به أشعياء النبي فقال: إن السحابة المتألقة التي حملت الرب يسوع إلي أرض مصر هي أمه العذراء مريم التي فاقت السحاب نقاء وطهرا. أما المذبح الذي أقيم للرب يسوع في أرض مصر فهو الكنيسة المسيحية التي قامت علي أنقاض الهياكل الوثنية إثر تزلزل أوثانها وانهيار برابيها أمام وجه الرب يسوع. والمغزي المستقي من هذه النبوة هو أن تحقيقها العاجل يظهر لنا بوضوح مدي الاستعداد الروحي الذي مكن المصريين من سرعة قبول البشارة لديانة المسيحية في رضي وقناعة.. ولا يفوتنا أن نبدي اغتباطنا ومدي فخرنا لأن السيد المسيح قضي – وهو طفل وليد – بعضا من سني عمره في أرض بلادنا المحبوبة مصر, ثم عاد بعد ذلك إلي أرض فلسطين لكي يكمل فداءه للبشرية جمعاء.. لكن كيف كان هذا المولد العظيم؟
يذكر السنكسار أنه في اليوم التاسع والعشرين من الشهر القبطي كيهك الموافق اليوم السابع من الشهر الميلادي يناير من كل عام تحتفل الكنيسة القبطية بعيد ميلاد ربنا ومخلصنا يسوع المسيح, حيث تهلل الملائكة قائلين: المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وفي الناس المسرة, وأنه في هذا اليوم أيضا تمت نبوات الأنبياء عن مولد الرب يسوع من بتول عذراء, فقد تنبأ إشعياء النبي قائلا: ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل.. وفي هذا العيد المجيد نقتدي بربنا يسوع المسيح حيث نمد يد المساعدة لمواساة الضعفاء وسد حاجة المساكين وصنع الصلح والسلام بين إخواننا, إذ أن سيدنا بتجسده صنع سلاما أبديا ضارعين إليه لكي يتراءف علينا ويغفر لنا خطايانا.
* يوم ملء الزمان:
عيد الميلاد المجيد هو العيد السيدي العظيم, مبدأ الأسرار الإلهية, عيد ميلاد الكلمة الأزلي, الذي طربت له السموات وابتهجت له الأرض بأسرها, إذ فيه تبدلت وحشة العدل بأنس الرحمة, ونسخ نور النعمة ظلام الناموس, وتمت النبوءات, وأنجزت المواعيد الإلهية المنتظرة, وتجلت الحقائق الروحية تمحو بسناها الظلال الطقسية, وفيه أعلنت محبة الله للإنسان, فاطمأن جميع المنتظرين تعزية إسرائيل (لو 2: 25), وفيه ساوت الأرض السماء, وشاركت السماء الأرض, فسبحت الله الجنود العلوية, إنه يوم عجيب سماه الوحي ملء الزمان, إذ أرسل الله ابنه مولودا من امرأة, مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني (غل 4: 4, 5).. رتبت الكنيسة القبطية الاحتفال بهذا العيد للنعم العديدة التي أرسلها لنا الله من خلاله, ولتذكر بنيها بمحبة الله وتنازل ابنه الوحيد لخلاصهم (مت 1: 21), وأول من قدس هذا العيد واحتفل به هم الملائكة في السماء الذين زفوا إلي العالم بشري الفرح العام بولادة المخلص المسيح الرب (لو 2: 10), واحتفال الملائكة بهذا العيد وفرحهم به كان تنفيذا لأمر الله الذي سر به أيضا. وهذا يدلنا علي فضله وامتيازه عن بقية الأعياد, وصار حقا علي الكنيسة أن تشارك الملائكة في الفرح والاحتفال (لو 1: 68, 69, 79).
هذا وقد تسلمت الكنيسة حفظ هذا الاحتفال من الرسل أنفسهم, بدليل ما جاء في أوامرهم: يا إخوتنا تحفظوا في أيام الأعياد التي منها عيد ميلاد الرب, وكملوه في اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع للعبرانيين الموافق اليوم التاسع والعشرين من الشهر الرابع للمصريين, ولا تشتغلوا في يوم ميلاد السيد المسيح لأن النعمة أعطيت للبشر في ذلك اليوم…., وتدل أقوال الآباء وشهادات الطوائف الأخري علي أنه ما انفك محفوظا في الكنيسة منذ الأزمنة الرسولية.. فالقديس باسيليوس يتكلم عن تقديسه وحفظه, يوحنا ذهبي الفم يتحدث عن وجوده في الكنيسة ويعدد فوائد الاحتفال به علي أنه إذا كانت شعوب الأرض ورؤساها يحتفلون بمولد ملوكهم سنويا ويرون ذلك واجبا مقدسا, أفلا يجب علي المسيحيين أن يحتفلوا بعيد ميلاد من احتفلت بمولده ملائكة السماء – ملك الملوك ورب الأرباب.
وإذ تقرر ذلك بقي لنا أن نلاحظ أن الكنيسة – كما تسلمت من رؤسائها الأوائل – تحتفل بإقامة تذكار هذا العيد والغطاس أيضا ليلا ذلك لأن ولادة المخلص كانت في منتصف ليلة خمس وعشرين كانون الأول الموافق يوم تسعة وعشرين من شهر كهيك القبطي, وفي الكتاب المقدس إشارة إلي ذلك (لو 2: 9-10) فمن قوله: وكان رعاة مبتدئون يحرسون حراسات الليل, وإذا ملاك الرب وقف بهم وبشرهم. نستنتج من ذلك أن ولادة المخلص كانت ليلا, وأيد ذلك القديس باسيليوس بقوله: وأما يوما الميلاد والغطاس, فإن آباء مجمع نيقية قرروا أن يتقرب فيهما بالليل, وذلك لا لكراهية الصوم بل لتمجيد العيد, جدير بالذكر أن الاحتفال بهذا العيد المبارك قد يقع أحيانا في اليوم الثامن والعشرين من الشهر القبطي كيهك وذلك في السنة الكبيسة فقط, وهذا لعدة أسباب أوضحها الآباء والعلماء وهي أن البشارة بتجسد المخلص كانت في اليوم التاسع والعشرين من شهر برمهات القبطي, وبما أن السنة الرابعة من الدورة يكبس عليها يوم واحد, ولا يصح امتداد مدة إقامة سيدنا يسوع المسيح في أحشاء السيدة العذراء مريم عن التسعة شهور التي أقامها مدة الحمل به, وأيضا لا يمكن تغيير الختان عن يوم ستة من شهر طوبة القبطي, ولا دخول السيد المسيح الهيكل عن اليوم الثامن من شهر أمشير القبطي أيضا, بتحويل عيد الميلاد عن اليوم التاسع والعشرين من الشهر القبطي كيهك كما اتفق سنة ميلاده لئلا يتغير الختان ودخول الهيكل عن موعدهما, وأن بقي العيد في يومه, ولهذا مدة إقامته في الأحشاء تزيد, ولا يمكن إبطال اليوم الكبيس لئلا تتحول السنين عن أوقاتها الأصلية, انتخبوا طريقة سياسية وهي إما أن يقوموا بضم يوم ثمانية وعشرين من شهر كيهك إلي يوم تسعة وعشرين منه ويجعلوهما يوما واحدا, وإما أن يعتبروا يوم ثمانية وعشرين منه بدلا من يوم تسعة وعشرين ويصير الأول هو التاسع والعشرين بذاته, وبهذا الفن صارت السنين متساوية العدد, واستمرت الروابط المتقدمة والمتأخرة في مواعيدها المقررة, وقالوا إن السبب في جواز التعييد في الثامن والعشرين بدل التاسع والعشرين في السنة الكبيسة هو أن ولادة السيد المسيح كانت ما بين العشاءين, فمن ضم اليومين الي بعضهما واعتبرهما يوما واحدا يقول إن يوم ثمانية وعشرين يشبه بالمساء ويوم تسعة وعشرين بالصباح, والذي يقول إن يوم ثمانية وعشرين حل محل يوم تسعة وعشرين يقول إننا عيدنا في الموعد عينه.
* مولد الإله المتجسد:
ها قد رأينا الإله المتجسد ولد في قرية مغمورة لأم ريفية, ونشأ في قرية أخري, وعمل في دكان نجار حتي بلغ الثلاثين من العمر, ثم عمل كواعظ لمدة ثلاث سنوات ولم يملك في حياته بيتا ولم يكتب كتابا, ولم يشغل وظيفة, ولم يكون أسرة, ولم يدرس في جامعة, ولم يضع قدميه في مدينة كبيرة, ولم يسافر بعيدا عن مسقط رأسه بأكثر من مائتي ميل, ولم يعمل عملا واحدا من تلك التي ترافق من تعرفهم بالعظماء, ولم تكن له أوراق اعتماد إلا نفسه!! وعندما كان شابا اتجهت ضده أفكار الرأي العام, وهرب أصحابه منه, وأنكره واحد منهم, وسلموه إلي أعدائه, فجاز في سخرية المحاكمة, وسمروه علي الصليب بين لصين, وبينما كان يموت قامر جلادوه علي الشيء الوحيد الذي يملكه علي الأرض.. إنه رداؤه!! وحين مات علي خشبة العار أنزلوه ليدفنوه في قبر مستعار قدمه صديق له من باب الشفقة.
يا للعجب.. فقد شاءت القدرة الإلهية أن يدخل القصر والحظيرة في صراع مرير, ولم يمض علي ذلك إلا وقت قصير جدا ثم كتب النصر للحظيرة علي القصر (فندريك فان لون).
عظيم هو سر التقوي الله ظهر في الجسد (1تي 3: 16)
ها العذراء تحمل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل (أش 7: 14). هذا بالنسبة لمولد السيد المسيح لكن كيف كان حال العالم وقت مجيئه إلينا؟
* الرسالة المسيحية وديانات العالم القديم:
يذكر الفيلسوف بترونيوس: أن بعض المدن الإيطالية كان فيها من الآلهة المتعددة أكثر ممن كان فيها من البشر, ويذكر الفيلسوف جورج سارتن في وصفه للعصر الروماني والفترة التي واكبت ميلاد السيد المسيح قائلا: لم يكن العصر الذي ولد فيه المسيح عصرا ذهبيا, بل عصر دم ودموع, عصر قسوة ووحشية.
ويقول الفيسوف ويل ديورانت واصفا الفترة ذاتها: لم يكن في مقدور الرومان أن يفهموا بسهولة بأية وسيلة كانت تعاليم السيد المسيح هذه. نستنتج من هذا أن المهمة كانت شاقة للغاية أمام أداء الرسالة المسيحية في مهدها الأول تجاه مثلث الديانات الموجودة آنذاك اليهودية والرومانية واليونانية, لكن كيف انتصرت هذه الرسالة وهي تواجه الجيوش الرومانية الجرارة المنتشرة في بعض الأحيان في ميادين واسعة. وتتحرك حركات تمثل بها الحروب, تسطع دروعهم البرونزية فتضئ ما حولها, وتنعكس علي قبة السماء, وتزلزل الأرض وتجلجل تحت أقدام الجند وسنابك الخيل, وكأن هذه الأصوات كادت تدفع بالجبال مرة أخري إلي نجوم السماء!!
كيف إذن انتصرت الديانة المسيحية, وها الشاعر لوكان يقول طالبا اقتلاعها من علي وجه الأرض: تلك الطائفة التي تدعي بالمسيحيين, تحاول أن تحدث ثورة اجتماعية في البلد بين العبيد والطبقات الفقيرة. أليس من الأفضل ألف مرة أن تقتلع هذه الطائفة؟, وهذا هو تيجلينوس رئيس الحرس الإمبراطوري يرسل إلي القيصر بنص الرسالة التالية: إن الذين اتبعوا يؤكدون أنه لا رب لهم إلا ذاك المدعو (خرستوس) وهم يعقدون اجتماعات سرية تحت جنح الظلام يرتكبون فيها أبشع الجرائم. وهذا أقدمه علي أساس تقارير سرية وصلت إلي من أكثر من جماعة عبر العيون التي أرسلتها لاستجلاء أسرارهم الدقيقة بصفة عامة.. إنهم يخطفون أطفال الرومان ويذبحونهم ويشربون دمهم, ويأكلون لحومهم, وهذا هو عشاؤهم السري الدائم, إنهم يطالبون سرعة مجئ ملكهم لينهوا عصر القياصرة, وبسبب تسامحنا معهم غضبت علينا الآلهة, وسحبت منا ثقتها, ولقد تداركت الخطر قبل فوات الفرصة, فأمرت بتعذيب كل مسيحي. إن روما تصرخ طالبة النقمة والآلهة تنادي بالانتقام والعالم كله يهتف ضد أعداء الإنسانية, وعليك قد وضعت المسئولية أيها القيصر العظيم, لتنفذ مشيئة الشعب والآلهة… لهذا صدر قانون روماني يحرم الديانة المسيحية في كافة أنحاء الإمبراطورية, ويحدثنا في هذا الصدد المؤرخ الكبير شاف قائلا: نحن لا نعرف ديانة أخري استطاعت أن تصمد لفترة طويلة – ثلاثة قرون تقريبا – في مقاومة متصلة من التعصب اليهودي والفلسفة اليونانية والسياسية الرومانية وقوتها. ما من ديانة كهذه الديانة المسيحية يمكنها أن تنتصر في النهاية علي أعداد كثيرين بالقوة الأدبية الروحية وحدها, ودون الاستعانة بأية رسائل مادية لمساندتها.
هكذا برزت الديانة المسيحية إلي عالم الوجود ماردا جبارا وقوة هائلة تجرف الناس بالمئات والألوف إليها, وتصارع جميع القوي الجهنمية, واستطاعت أن تستأثر كل فكر إلي طاعة السيد المسيح, فتضاءلت أمامها أورشليم بهيكلها الضخم العظيم, وتصاغرت أمامها أيضا مدينة رومية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الجامحة التي كانت بمثابة المدينة الأولي في العالم كله في تلك الفترة, وتسامت الديانة المسيحية لتقول لليهود: هوذا بيتكم يترك لكم خرابا (مت 23: 38), وتعود بعد هذا إلي مدينة رومية لتعلن لها: إن غضب الله معلن من السماء علي جميع فجور الناس وإثمهم (رومية 1: 18), وترتد إلي مدينة أثينا عاصمة العلم, والثقافة لتعلمهم أن: الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذا هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيدي, ولا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلي شيء, إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شي (أع 17: 25).. لكن كيف استطاعت المسيحية أن تتخطي تلك الفرائض الراسخة, وبأية قوة جابهت الآلهة الخارقة, أرطاميس العظيمة وهي آلهة عظيمة عند الشعب اليوناني آنذاك, وكان الهيكل الرابع لها يعد من عجائب الدنيا السبع, وأثناء زيارة بولس الرسول إلي مدينة أفسس هتف كل الشعب اليوناني بالساعات بعظمة آلهتهم أرطاميس, ووجدت صيغة هذا الهتاف مكتوبة في بعض النقوش التي تم اكتشافها في مدينة أفسس (أع 29: 24, 25), خاصة أن الديانة المسيحية في مهدها الأول كان تحت إبطها جماعة صغيرة ضعيفة لا مركز لها ولا قوة ولا نفوذ, كما أن الشخص الذي تأسست المسيحية عليه عاش في الناسوت فقيرا, واشتغل نجارا متواضعا, وأخيرا رفض من خاصته لكي يموت علي خشبة أقل ما يقال عنها إنها صليب العار, وعندما ولدت المسيحية لم تأت بتعاليم محددة بل بمسيح معلم.
* متي ولد السيد المسيح؟
حين نتحدث عن الفترة التي ولد فيها السيد المسيح لابد أن نتجه بأنظارنا إلي المدن التالية التي كانت قبلة أنظار العالم وملتقي سياسته وقادته في عصر ميلاد السيد المسيح وهي: روما أهم مدينة في العالم القديم, وتأسست سنة 753 قبل الميلاد علي يد روميلوس الذي صار أول ملك لها, ثم أثينا التي كانت تعد المدينة الجامعية في العالم رغم أنها كانت خاضعة آنذاك تحت سيطرة الحكم الروماني, فإن كان الرومان قد غزوا العالم عسكريا فإن اليونانيين غزوه فكريا وعلميا, فهم أساتذة الفلسفة في العالم, وقامت فسلفتهم علي أساس البرهان العقلي والترابط العلمي والتحليل المنطقي, ومن أثينا كان يشع ضوء الفكر والعلم إلي جميع المدن الأخري مثل أنطاكية وطرسوس والإسكندرية أيضا.
كما ازدهرت فيها أربع مدارس فكرية فلسفية هي المدرسة الأفلاطونية, المدرسة المشائية, المدرسة الأبقورية, أخيرا المدرسة الرواقية, وكان سكانها شغوفين بكل علم جديد ومحبين للاستطلاع, وتأسست المدينة سنة 1581 قبل الميلاد (أع 17: 21), ونلاحظ أيضا أن الحياة في الإمبراطورية الرومانية كانت متأثرة جدا بطابع الحياة اليونانية كما كانت اللغة اليونانية هي اللغة الغالبة التي وحدت الشعوب الخاضعة لصولجان روما في الشرق القديم, ولو نظرنا إلي البقعة التي ولد فيها السيد المسيح سوف نري البصمات اليونانية القوية, فعلي ضفاف الأردن قامت مدن يونانية, واتخذت العشر مدن المذكورة في إنجيل (متي 4: 15, مرقس 5: 20) مدينة أثينا نموذجا لها, فأقيمت فيها هياكل للآلهة زيوس وأرطاميس ومارح وساحات للألعاب الرياضية وميادين عامة ومسارح للمصارعات وغير ذلك. وكانت مدينة قيصرية مقر حكومة بيلاطس فيم بعد الذي أقيل من منصبه بعد صعود السيد المسيح إلي السموات ونفي إلي فرنسا ومات هناك ويقول البعض إنه مات منتحرا. أما المدينة فكانت واقعة علي شاطئ البحر الأبيض المتوسط وطبرية الواقعة شمال الناصرة علي بحر الجليل وقيصرية فيلبي القائمة علي منحدرات جبل حرمون وأريحا.. كانت كلها يونانية في فنها المعماري وفي عادات أهلها ولم تحتفظ بالطراز اليهودي في أبنيتها وعاداتها إلا المدن الصغري والقري في اليهودية, وفي هذه المجتمعات ولد الرب يسوع, وربما كانت المدينة الثالثة هي الإسكندرية التي أسسها الإسكندر الأكبر وسميت باسمه في عام 332 قبل الميلاد, وكانت هي البلدة المصرية القديمة ركتوس الفرعونية لابد أيضا أن نضع في الاعتبار ما كان لليهودية من دور بارز في عصر ميلاد السيد المسيح وهو دور لا يقل أهمية وتأثيرا عن الدور الروماني واليوناني إن لم يكن يزيد عنهما في كثير من الأحيان.
ولكن عندما ولد السيد المسيح كيف كانت أحوال العالم؟ من كان يحكم وقتها؟ وما هو نظام الحكم الذي كان سائدا وقتها؟ كيف كان الناس يعيشون؟ ما هي أهم وأبرز معتقداتهم؟ ما هي الديانات الموجودة في هذا الوقت؟ كيف كانت أخلاقيات الناس وظروف معيشتهم؟ وأسئلة أخري عديدة من هذا النوع لابد أن تفرض نفسها علي الفكر.
كان في أيام هيرودس…. هكذا افتتح متي إصحاحه الثاني في إنجيله. إذن فيقينا ولد الرب يسوع في أيام هيرودس الملك (متي 2: 1) الذي دخل الحكم من خلال مساعدة ومعاونة الرومان في سنة 37 قبل الميلاد, وبالرغم من ذلك فليس من اليسير علينا أن نصل إلي معرفة دقيقة لتاريخ ميلاد المسيد المسيح, ويختلف جمهور المؤرخين والعلماء في تحديد وقت حدوث هذا الحدث العظيم علي وجه التحديد. وبالرغم من ذلك فإنه يمكننا أن نربط بين الأحداث السابقة واللاحقة لتاريخ مدينة روما كمقياس لهذا. حيث سنجد أنه طبقا للحقائق التاريخية التي ذكرها المؤرخ اليهودي يوسيفوس Josephus في كتابه تاريخ الفكر المسيحي والذي كان معاصرا للمسيح مثل تاريخ موت الملك الطاغية هيرودس الكبير الذي يوافق تقريبا أول أبريل عام 754 لتأسيس مدينة روما, وكذلك حدوث خسوف القمر وقتله بعض أحبار اليهود في نفس عام موته, الذي يقال إنه تم أول سنة 750 لإنشاء مينة روما Romae, بذلك يكون الميلاد الحقيقي من وجهة نظره قد تم في أوائل سنة 4 قبل الميلاد, لكن الشائع هو التاريخ الذي حدده الأب الروماني ديونيسيوس إكسيجوس Diongsius Ecigus Abbot الذي عاش في القرن السادس باعتبار عام 754 لتأسيس مدينة روما الإيطالية هو نفسه السنة الأولي لميلاد السيد المسيح. وهو التاريخ الشائع للميلاد. إذن فميلاد السيد المسيح تم في أوائل سنة 4 قبل الميلاد. أما الاحتفال بالميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر من كل عام فقد بدأ فعليا منذ القرن الرابع الميلادي, وهذا يجعله سابقا للتاريخ الذي حدده ديونيسيوس أي يوم 25 ديسمبر سنة 1 ميلادية, ويتفق أيضا في هذا البحث يوسابيوس القيصري إذ يحدد تاريخ ميلاد المسيح في سنة 752 لبناء مدينة روما أي سنة 4 قبل الميلاد, وهذا البحث يتفق أيضا مع ما قرره اكليمنضس الإسكندري الذي أكد أن المسيح ولد بعد غزو مصر بثمانية وعشرين سنة تقريبا, ويحدد بعض مؤرخي الكنيسة يوم الميلاد بأنه تم في يوم 25 ديسمبر الموافق 28 كهيك من الشهر القبطي.
* أحوال البلاد في عهد ميلاد المسيح:
وفي منطقة حيوية من العالم في هذا الوقت وهي منطقة الشرق الأوسط حاليا, وعلي وجه التحديد في مصر أبرز وأشهر منطقة تنتمي إليها.. هلم نجوب فيها لنتعرف عليها عن قرب, ونحاول أن نعايش كافة الأحوال والظروف التي واكبت مجئ السيد المسيح في هذه المنطقة, ومن كان يحكمها؟ كيف كان حال سكانها؟ من كانوا يعبدون؟….
عندما جاء السيد المسيح إلي العالم كانت مصر لاتزال تقع تحت وطأة الحكم الروماني الذي سيطر علي البلاد منذ عام 30 قبل الميلاد وكان ذلك عقب معركة أكتيوم البحرية التي دارت في عام 31 قبل الميلاد بين كل من قوات الملك أنطونيوس من جهة والملكة كليوباترا من جهة أخري وقوات أكتافيانوس من جهة ثالثة, وكان ذلك الحدث في اليوم الثامن من الشهر القبطي مسري الموافق أول أغسطس عام 30 قبل الميلاد.
ولم يكن شهر أغسطس قد سمي بهذا الاسم بل كان يعرف وقتئذ بالشهر السادس وفقا للتقويم الروماني القديم الذي كانت السنة تبدأ فيه بشهر مارس, وقد سمي بشهر أغسطس تخليدا لذكري أكتافيانوس الذي تم منحه لقب (Augustun) بمعني المبجل وكان ذلك في 16 يناير عام 27 قبل الميلاد وليس في عام 8 قبل الميلاد كما يعتقد البعض, وبهذا دخلت مصر في نطاق وسيطرة الإمبراطورية الرومانية, وأصدر في هذا الوقت السناتو أي مجلس الشيوخ وقتها قرارا رسميا يلزم فيه باعتبار هذا اليوم علي وجه التحديد هو يوما قوميا وطنيا في كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية, كما أصدر أكتافيانوس في نفس الفترة أمرا إلي جميع الجنود بمنعهم من التعرض سواء بالنهب والسلب أو بالتخريب لهذه المدينة, وبهذه المناسبة قام أكتافيانوس بإلقاء خطابا باللغة اليوناينة علي مواطني المدينة أعلن فيه عن تسامحه معهم وعفوه ومغفرته لهم, وعندما أحضروا إليه تابوت الإسكندر الأكبر من داخل قبره تمعن في جثمانه ووفاه ما يستحق من احترام وتقدير وتبجيل بأن وضع عليه تاجا مصنوعا من الذهب الخالص ونثر فوق جسده باقة من الزهور والورود الجميلة, وحين سألوه إن كانت لديه الرغبة في أن يشاهد ويزور ضريح البطالمة أجاب أكتافيانوس بأنه رغب في أن يشاهد ويزور ملكا لا أن يشاهد أمواتا.
ولم يكن أكتافيانوس يقصد بهذا إهدار ذكري البطالمة بقدر ما أراد جرح كبرياء الإسكندريين, ولعله أراد أن يفهمهم أن نفوذهم وسيطرتهم السائدة في البلاد قد تلاشت بالفعل, وأن الأسرة التي كانوا رعاياها قد اندثرت إلي الأبد, ولما كان أكتافيانوس يدرك تماما أن الإسكندريين هم بطبيعة الحال شعب أكثر ميلا إلي الشغب يثور لأبسط الأمور والأسباب فقد وضع داخل المعسكر الكبير الذي أقامه بنفسه في مدينة نيقوبوليس وهي مدينة تبعد عن مدينة الإسكندرية نفسها حوالي أربعة كيلومترات تقريبا, ومكانها في الوقت الحالي بالقرب من الرمل بالإسكندرية, فرقة رومانية ضخمة عززها ودعمها بثلاث كتائب مساعدة من المشاة وهي الفرقة الثانية والعشرون.
* العبادات السائدة في عصر التاريخ الميلادي:
وحين نتطرق إلي معرفة عادات ونظم العبادة في مصر خلال تلك الفترة التي جاء فيها السيد المسيح لاستوجب الأمر الرجوع إلي نص هذه الرسالة التي كتبها أحد الأشخاص إلي صديق في بدايات العصر الميلادي يصف من خلالها الأحوال والظروف التي كانت سائدة في مصر سواء الاجتماعية أو الدينية وقد تم اكتشافها مؤخرا علي ورقة بردي. وفيما يلي جزء من نص الرسالة حيث يقول فيها: من ذا الذي لا يعلم يا عزيزي فوليسيوس أي مخلوقات غريبة تقدمها مصر؟ فهذه المنطقة (ويقصد بها مصر) تعبد حيوان التمساح البحري, وتلك يمتلئ قلبها رهبة في أي منجل المتخم (الممتلئ) بالثعابين, ويتلألأ التمثال الذهبي لانسناس, وهناك في مدينة طيبة يعبدون القطط (لذلك كان من يتعرض لأي قطة بالأذي أو القتل سواء كان قد قتلها عن عمد أو دون قصد يكون جزاؤه الحتمي والمؤكد هو الموت علي أي حال), وهنا سمك (النهر) هنالك المدن كلها تعبد الكلب (ويقصد بمدينة الكلب) مدينة (كينو بوليس القديمة) التي تقع حاليا في الشيخ فضل بالقرب من بني مزار بالمنيا, وكانت المدينة تعظم (أنوبيس) بإقامة مآدب مقدسة للكلاب بصفة عامة, وكان المصريون يصورون الإله (أنوبيس) في صورة إنسان له رأس كلب إشارة إلي أنه الإله الحارس والخاص لأتباع الآلهة إيزيس وأزوريس).
ويستطرد في حديثة قائلا: ما من أحد يعبد الإلهة ديانا وديانا هذه عند الرمان قديما هي نفسها الإلهة أرتميس لدي اليونان ربة الصيد, وحرام أن يدنس الكرات والبصل وأن يقضما بالأسنان وكان المصريون في هذا الوقت من الزمان يعتبرون الثوم والبصل من الآلهة وكانوا يقسمون بهما في كثير من الأحيان, يا له من شعب قدسي تنبت عنده هذه الآلهة. إن موائده جميعا تعزف عن ذي الوبر من الحيوان والمقصود هنا بلفظ ذي الوبر من الحيوان الكبش الذي يرمز إلي الإلهة خنوم, وكان أهل مدينة هايس أي مدينة صا الحجر وقتها يقدسون حيوان الكبش ويبجلونه وكذلك كان أهل مدينة طيبة يعبدونه.. ومعني خنوم الخالق أي خالق الآلهة والأرض والنيل أيضا, وكانت ستيت هي الإلهة ربة الشلال الأولي هي رفيقته كذلك, وكانت عبادة الإلهة خنوم سائدة في مصر في العديد من الأماكن أهمها وأشهرها علي الإطلاق مدن إسنا وأسوان والشطب, وبينما يحرم هناك ذبح صغار الماعز تستباح لحوم البشر حيث كان أهل مدينة منديس الواقعة حول تل الربع الحالية في جنوب شرق المنصورة يقدسون كل أنواع الماعز الذكور منها قبل الإناث.
وإن كانت تلك الرسالة قد أوضحت بالفعل جانبا يسيرا من الحياة الدينية في مصر ذاك الحين, إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل آلهة رئيسية أخري كانت سائدة أيضا في مصر في ذلك الوقت أهمها: رع إله الشمس ومصدر النور وواهب الدفء للكون, وكانت مدينة هليوبوليس عين شمس مركزا لعبادة هذا الإله ثم انتشر الإيمان بعبادته علي نطاق أوسع حتي ساد جميع الأقاليم في مصر كلها, هناك أيصا آمون وترجمته الحرفية الإله المستنير وكانت طيبة في الوجه القبلي مركزا لعبادته, وفي العصر الذي ولد فيه الرب يسوع ائتلف بـرع فيما بعد وصار يعرف بالإله آمون رع, أما أوزيريس فهو الإله الذي هبط من السماء أو الإله المتجسد الوافد من ليبيا أو سورية, وهو الذي يقدم للبشر سبل المحبة والسلام والتعاون فيمكث بينهم فترة من الزمن, وآلهة أخري كثيرة يصعب حصرها, علاوة علي هذا كان المصريون لا يعبدون فقط آلهتهم التي ولدت ونشأت في مصر, بل عبدوا أيضا آلهة وافدة من الخارج مثل أناهيتا من بلاد فارس, عشتار معبودة فلسطين وبابل.
* مدينة الإسكندرية في مهدها الأول:
حين نتحدث عن مصر في مطلع عصر التأريخ الميلادي فلا يمكننا أن نغض النظر عن بلدة ركوتس الفرعونية أي مدينة الإسكندرية العظمي حاليا التي كانت تعد آنذاك بمثابة ثاني مدينة في العالم القديم كله علي وجه الإطلاق بعد مدينة روما, وكان عدد سكانها لا يقل عن ستمائة ألف نسمة, وتعد مكتبتها في ذاك الحين أكبر مكتبة في العالم القديم بصفة عامة. إذ كانت تضم ما يقرب من نصف مليون مجلد أثري قيم, أما أهم معابدها فهو معبد السرابيوم الذي كان يعبد فيه الإله سرابيوم والإله سرابيس هذا هو إله مكون من امتزاج الإله أوزيوس بالإله أبيس ويظن البعض الآخر أنه خليط من زيوس الإله اليوناني, أزيوس إله العالم الآخر عند قدماء المصريين. وهنا لابد أن نشير إلي أنه في بداية العصر الميلادي كان أغسطس قيصر قد اتخذ من التدابير اللازمة ما يكفل رد الإسكندريين إلي صوابهم إذا ما خطر لهم أن يثيروا الشغب أو يقوموا بالثورة في وجه الرومان, غير أن هذه التدابير لم تثن مواطني المدينة عن مناصبة روما العداء, مع أن ضم مصر إلي الإمبراطورية أفاد مدينة الإسكندرية من الناحية الاقتصادية فقد ظلت كما كانت أيام البطالمة عاصمة البلاد ومقرا للوالي, تتركز فيها الدور الحكومية الرئيسية والمحاكم المهمة, وتودع فيها كافة السجلات الرسمية, ويتردد عليها المتقاضون والتجار وأصحاب الحاجات وكذلك ضباط وجيوش الرومان المرابطون بمعسكر مدينة نيقوبوليس الذين كانوا ينفقون فيها عن سعة, لقد كانت بمثابة السوق المزدحمة التي تنبض دائما بالحركة والنشاط وزاد من نشاطها الأساطيل الرومانية كالأسطول الأغسطسي الإسكندري, أسطول ميسنيوم التي كانت تبحر منها بانتظام إلي إيطاليا محملة بالقمح غير متعرضة لخطر القراصنة الذين طهرت روما البحر منهم.. جميع هذه العوامل روجت الأعمال التجارية بأنواعها كافة, وزادت من رخاء المدينة, غير أن الربح المادي والكسب التجاري لم يله الإسكندرية عن خسارتها الأدبية الجسيمة وأفول نجمها السياسي.. فقد ساءها أن تفقد مكانتها القديمة كعاصمة لمملكة مستقلة قوية, بل إمبراطورية واسعة, بينما يصعد نجم روما التي كانت الإسكندرية العظمي – علي حداثة نشأتها – تنظر إليها شذرا بوصفها مدينة حديثة النعمة. وحزفي صدر الإسكندرية أن يصيروا رعايا عاهل لا يقيم بينهم ويتحكم في مصائرهم عن طريق نائب يتمتع بسلطة تكاد تكون مطلقة.
* مراجع الدراسة:
* قصة الكنيسة القبطية – الجزء الأول – دكتورة إيريس حبيب المصري.
* موسوعة من تراث القبط – المجلد الأول – دكتور سمير فوزي جرجس.
* العصر الذي ولد فيه المسيح – ملاك لوقا.
* الأقباط النشأة والصراع من القرن الأول الميلادي إلي القرن العشرين – ملاك لوقا.
* السنكسار.
* آراء مصر الفرعونية عن الآلهة – المستشرق الفرنسي إميلينو.
* الأفكار المتعلقة بالله عند قدماء المصريين – المستشرق الفرنسي إميلينو.
* المجموع الصفوي.
* تاريخ الفكر المسيحي – يوسيفوس.
* فجر الضمير – هنري بريستد.
* الأمة القبطية وكنيستها الأرثوذكسية – فرنسيس العترا.
* موسوعة الحضارة المسيحية – المجلد الأول – ولادة المسيحية ونشأتها – جورج فيليب الفغالي.