عندما يغادر العمالقة عالمنا يتركون تراثهم المتفرد ليتحول إلي نبراس مشع يضئ الطريق أمام الآخرين..
في يناير عام 2007.. كان الاحتفال بالذكري الأولي لرحيل الفنان المصري العالمي د. إيزاك فانوس, مؤسس المدرسة الفانوسية والذي بدأ رحلته الإبداعية عبر معهد الدراسات القبطية.. حيث قاد خلالها حركة فنية غير مسبوقة خاصة في فن الأيقونة القبطية. وقد جمع فيها بين الحضارة الفرعونية الأصلية والتراث القبطي المتميز ومزجهما بالمعاصرة المطعمة بالرمزية الثرية بكل ما تحمله من المعاني اللاهوتية والروحية والعقائدية والطقسية والتأملية.. فقدم لنا رؤية إبداعية مبهرة وترك ثروة أيقونية عالمية..
لماذا قراءة الأيقونة؟!
في العصور المسيحية الأولي كانت من بين أهم أهداث الأيقونة القبطية أن تكون تعليمية وتعمل علي محاربة الأمية خاصة الدينية,, فاهتم الفنانون في تلك الحقب الزمنية بتقديم أحداث الكتاب المقدس من خلال رسم الأيقونة ولهذا يطلق عليها مصطلح كتابة الأيقونة.. وكذلك تذوق وتحليل الأيقونة وتفسير عمق رمزيتها يطلق عليه قراءة الأيقونة.. وكان د. إيزاك بارعا في كتابة الأيقونة ويرحب بكل من يقرأها..
ومن خلال صفحة فنون تحتفل وطني بذكري المبدع الراحل د. إيزاك فانوس والتي تواكب الاحتفال بعيد الظهور الإلهي الغطاس بتقديم تحليل وقراءة في أعماق سطور إحدي أيقوناته حيث كان يسعده كثيرا اهتمامنا بتقديم ثقافة الفن القبطي للقراء الأعزاء..
جذور العبور والمعمودية
في كنيسة القديسة العذراء مريم القبطية الأرثوذكسية بلوس أنجلوس.. توجد أيقونة عبور البحر الأحمر من أعمال د. إيزاك. وتعد هذه الأيقونة واحدة من أروع أيقوناته التي تضرب بجذورها في أعماق الرمزية, وهي تختزل أحداث حقبة زمنية عصيبة بعد أن عاني موسي النبي وشعبه من الفرعون.. فنري عبر سطور الأيقونة موسي وهو يقود الشعب وفي يده عصاه التي أمره الله أن يشق بها البحر وهو في مقدمة شعبه وإلي جواره هارون وأخته مريم النبية وخلفهم الشعب يرنمون للرب ويسبحونه بعد أن أنقذهم من يد الأعداء..
تتطابق ملامح الأيقونة مع التفسيرات والتأملات الآبائية مثل القديس يوحنا ذهبي الفم والقديس جيروم والقديس غريغوريوس أسقف أنصنا والقديس أغسطينوس, حيث يرمز عبور البحر الأحمر إلي المعمودية.. فمثلما عبر موسي بشعب الله واجتازون البحر كما يظهر في الأيقونة.. هكذا الذين يعتمدون يجتازوا بحر الموت المعمودية فتكون نهاية أعدائهم الشياطين ويتحرروا من ثقل الخطية بعد أن يتمتع المؤمن بالخلاص خلال الدفن مع المسيح المتألم والفوز بقوة قيامته.
وقد احتفظ البارع د. إيزاك بالتكعيبية التي يميل إليها والتي تظهر بوضوح في مقدمة طريق شخوصه في صورة صخور أعماق البحر ليؤكد علي انشقاق الماء في الوسط حتي ظهور اليابسة في العمق وليرمز بقوة إلي وجود العقبات والآلام المدمرة في طريق الحياة مع إمكانية التغلب عليها وعبورها رغم صعوبتها بمساندة الله ومعونته والتي يرمز لها الملاك المضئ أعلي الصخور.. كما ظهرت التكعيبية في خطوطه الحادة التي تحيط بالملاك الآخر ليرمز إلي الملاك الذي دخل – في القصة الحقيقية – بين عسكر الفرعون وعسكر شعب الله فصار السحاب والظلام وأضاء الليل. كذلك عمد إلي استخدام الإضاءة الخافتة في مجمل الأيقونة ليرمز إلي تأكيد وجود شخصياته في أرضية البحر بعد انشقاق مياهه. وأيضا تشير عصا موسي التي ضرب بها البحر فأغرق فرعون إلي خشبة الصليب التي ضرب بها السيد المسيح الشيطان فأغرقه في الجحيم.
براعة لغة الحركة
أجاد د. إيزاك في إبراز لغة الحركة في الأيقونة الثابتة ببراعة متناهية في كل تكويناته وأماكن الشخوص فانسجمت حركة الأقدام مع ثبات الطريق لترمز لأنه برغم زلازل الحياة وضيقاتها فالسير مع الله يثبتنا فلا ننهار, بل يسندنا بمعجزاته والتي تشير إليها أمواج البحر الثائرة وقد ارتفعت كالسور العملاق لمن وضع ثقته في الله وآمن به, فأصبحت الأمواج رغم ثورتها.. كالحائط الذي يفصلنا عن الشر ويحمينا من الهلاك. كذلك عبرت حركة الشخوص وأدواتهم عن البهجة والتسبيح. أما حركة الملاك الذي يتقدمهم والذي تصور خلفية ذات تكوينات بديعة تشبه الترددات الصوتية فقد رمزت بجدارة لقول الله وهو يطمئن شعبه: الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون.
تناغم قوة الرمزية
تناغمت كل عناصر الأيقونة لتقدم رسالة شديدة التميز حيث قام الفنان العالمي د. إيزاك فانوس باستلهام أحداثها من الكتاب المقدس.. وأجاد استخدام مفرداته بحماس وأكد سيطرته علي أدواته في تجميع كل العناصر وانسجامها مع التعبير عن صدق الحدث الرهيب.. فبعث الحياة والحيوية في أيقونة عبور البحر الأحمر برمزيتها المثالية المتوافقة مع المعمودية. بالإضافة إلي قدسية رمزيتها لحماية الله لنا والتي نستمد منها قوتنا أثناء عبور رحلة الحياة بكل مصاعبها لنصل إلي السماء بكل أمجادها.