يلفظ هذا الزمن المفعم بالفوضي بعضا منا خارج قارورة عالم يبدو وهاجا… خارج كل الحسابات… وتتوه معالم كل الأشياء… تتبدد في الأفق جميع الغيمات… لنري تجويفا في قلب المجتمع وقد جمع ملايين يحيون حياة أشبه بالموت… بل إن الموت كرامة لمن يتمني الموت… لن أفصح عن أسماء… فالاسم مواطن من ملايين… لن أحصي كشوف المحرومين… قصص الحرمان تترنح في جنبات بلادي… تبتلع الفقر… فيخبو الصوت… تهرب بعض الكلمات من رجل في العقد الخامس من عمر عاش طواله ذليل الفقر… وتزوج هذا العم وأنجب ستة من الأبناء… إذ أن الحق الأوحد للفقراء في زمن ضاعت فيه كل حقوق العيش الآمن أن ينعم من يتمكن منهم بالعزوة.
ابنان وبنات أربع لم يتعلم فرد منهم كيف تكون الألف وأين تكون الياء… والعيش مرير… والتعليم له كلفة لا يملكها هذا العم… والحمل الأكبر كان أهم… سد الأفواه والجوع الجاثم فوق بطون الستة كان أهم… ورعاية أم كف الفقر بصرها بعد صراع كان أهم… بيع المناديل كل صباح في الطرقات وبين السيارات في مفترق الطرق وفي الإشارات… لا يكفي نقطة في بحر العوز… والعم عجوز من عمر طال… ومن عجز طال أحد كفيه… الابن الأكبر أدرك عوز أبيه… ونداء الحرمان في أفواه ذويه… شب وشاب قبل أوان كان عليه أن يتفتح فيه… وتعلم كيف يكون العمل الشاق.
في أحد الأحياء وجد الابن ما يكفيه ويسد العوز في أفواه ذويه… ذهب هناك وتعلم كيف يكون الجمع وكيف يكون الفرز… والحي يسمي بالزرايب… وترقي في جمع المتبقي ممن يحيون حياة رغدة… وتحول بعد أوان من أحد الصبية إلي شاب تملؤه القدرة… يتولي الإنفاق علي كل الأسرة… يطمح ويحقق ويعاند فقرا كان رفيقا… وترقي في العمل الحر… سيارة كانت حلما وكفاحه حقق هذا الحلم… يجمع فوق بدنها كل الكرتون وبلاستيك من كل مكان ويدور يبيع لمن يختار… وترقي الحال.
بلغ الابن العام الثالث والعشرين… ملك من الأحلام كثيرا… وتعهد للأب بكل جميل… لكن الزمن المفعم بالفوضي لم يمهله التحقيق… ذات صباح والكل نيام والابن في سيارته يتوقف عند الجمع وعند مكان ما… اجتمعت أشباح الفوضي عليه… قاومهم لا يملك إلا هذا الحلم السيارة لو أخذوها ماذا يتبقي لينفق علي أسرة وضعت كل أملها فيه… قاوم حتي الموت… تركوه الأشباح بين ميت وحي… فروا هاربين… ومن الناس من رقت قلوبهم… بعد ساعات نقلوه إلي أقرب مستشفي لجراحات اليوم الواحد.
قضي الشاب 17 يوما دون جدوي فحولوه إلي أحد مستشفيات القاهرة… وهناك حدث أمر غريب… قال أحد الأطباء لابد من تغيير أنبوب لسحب الصديد من منطقة في صدره بجوار القلب… ومر الأنبوب… لكنه مر مخترقا كل الأحلام مدمرا إياها… مخترقا قلب الشاب الذي ظل ينزف… ولأن الأهل والمعارف بسطاء من الفقراء عقلا قبل أن يكونوا من الفقراء مالا استغل الطبيب جهلهم… وأجبرهم علي التوقيع باستلام جثة ابنهم… لم يفهموا ما يدور… أصابتهم صدمة فقدان الابن الأكبر وعائلهم الوحيد بعدم التوازن… ثم أدركوا الأمر… صرخ الأب المكلوم الدكتور هو اللي موت ابني. تعنت الطبيب في تسليم جثة الولد ورفض بشدة مستغلا انفطار القلوب علي الشاب القتيل.
إكرام الميت دفنه… هكذا يقول الناس لكن الطبيب أبي… ذهب الأب إلي أقرب قسم شرطة مقدما البلاغ الرسمي في الطبيب.
وبالتوازي كان قد قدم بلاغا فيمن اعتدوا عليه وتم القبض عليهم… أشباح فارة يا أعزائي حصلوا علي براءة مطلقة… شاب قتيل وبراءة للقاتل… وتمضي الأحداث أكثر عنفا علي المتابعين… يقول العم: طلبوا مني يشرحوا ولدي قلت لهم هاتجبيبوا حقه خدوه… وقلبي بيتقطع وأنا شايف ولدي هايشرحوه, وقاموا بتشريح الجثة… حتي صارت مشاعر الأب والأم أشلاء متفرقة مع كل عضو تدب فيه آلة التشريح… وأثبت الطبيب الشرعي أن الوفاة جاءت بسبب اختراق أنبوب للقلب الذي ظل ينزف حتي فارق الحياة.
لكن الفوضي في الزمان سادت فيه وأسلمها مقاليد الأمور فسترت كل العوارات…البراءة التي حصل عليها الأشباح كان للطبيب نصيب كبير منها… كان من المنتظر الحصول علي تعويض… فالابن راح والمورد الذي كان يجلب الرزق راح…
ولم تبق سوي حقيقة واحدة… أسرة لا مورد للرزق لها لم تحصل إلا علي معاش السادات 120 جنيها… أربع بنات صغيرات… وابن صغير 16 سنة يعمل صبيا في ورشة حدادة… وأم كفيفة… وأب عاجز… وأفواه لابد من إطعامها… وأناس لابد من إعالتهم… عيون لا تتطلع إلا للقوت اليومي… قلوب أدماها الحزن وفاض… إنها قصة ضمن الآف قصص المحرومين… نتاج الفوضي لكنها ليست الفوضي الخلاقة كما يقولون وإنما الفوضي, القاتلة… الفوضي الظالمة… من يأتي بحق هذا الشاب؟ إنه لم ينل من الحياة إلا الفقر والبؤس وكانت أقصي أحلامه سيارة يجمع عليها الكرتون والبلاستيك.
من يحمل علي عاتقه جلب حق أسرة بأكملها حرمت ممن يعولها وحرمت من الضني الغالي… الابن الأكبر وكما هو دارج البكري ابن العمر… أم أن الفقراء لا حق لهم في التعويض؟ ولا حق لهم في الأحزان… ولا حق لهم في الأمان… تساؤلات تحتاج لإجابات… تحتاج لمبادرات… ولكن حتي يأتي الحق من يعول هذا العم وتلك الأسرة ويجبر كسر القلوب؟
أيها العم العزيز تسمرت يداي أسابيع حتي أتمكن من قص روايتك علي القراء… بعد أن أسلمتي تفاصيلها لليأس تارة وللتمرد تارة وللغيظ تارة… فأحيانا تغلبنا مشاعر العجز والضعف أمام مآسي الأخرين وتأخذنا بين رحاها فنفقد القدرة علي التعبير لحين التأقلم… فسامحني علي التأخير في النشر.
==
إيد الحب
امتدت أيادي الحب بالمبالغ التالية:
600 جنيه من عطايا الرب
600 جنيه من عطايا الرب