كان ##الركود الكبير## الأخير هو الأكثر عدلا بين الأحد عشر ركودا التي حدثت في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لماذا؟ لأنه مس تقريبا كل طبقة من الطبقات الاجتماعية, من حيث فقدان الوظائف, وخفض الرواتب, وهبوط قيمة المنازل, وتقلص محافظ الأسهم والسندات, وتآكل مدخرات التقاعد, وعودة الشباب إلي بيوت عائلاتهم مرة ثانية, والقلق الناشئ عن ذلك جميعا.
و##الركود الكبير##, كما بات يطلق عليه علي نطاق واسع, غير أمريكا سايكولوجيا, وسياسيا, واقتصاديا, واجتماعيا, بيد أن تحديد مدي ذلك التغيير علي وجه الدقة, سيحتاج إلي فحص ونقاش قد يستغرقان سنوات, وهو ما سيمثل مصدر كسب كبير لطائفة واسعة من العلماء, والخبراء, ومراكز الأبحاث.
وفي الآونة الأخيرة نشر ##مركز بيو للأبحاث## نتائج دراسة أجراها حديثا, اعتمدت علي استطلاع للرأي أجراه المركز في شهر مايو الماضي علي عينة بحث تشمل 3000 أمريكي, وعلي تقييم للأوضاع الاقتصادية كذلك. ولم يكن داعيا للدهشة, ما كشفت عنه الدراسة من أن الأمريكيين قد أصبحوا, بعد أن تعرضوا لآثار الركود, أكثر حرصا, وأقل إنفاقا حيث قال 71 في المئة من المستطلعة آراؤهم إنهم أصبحوا لا يهتمون بشراء الماركات المشهورة باهظة الثمن. وقال 57 في المئة من هؤلاء إنهم قد قلصوا مدة قضاء العطلات أو ألغوها نهائيا.. وليس هذا فحسب بل إن خطط الحياة نفسها قد تغيرت حيث قال 11 في المـئة من عينة البحث إنهم قد أجلوا زواجهم, أو أجلوا إنجاب أطفال, وقال 9 في المئة إنهم قد اضطروا نظرا لأزمة الرهن العقاري إلي العودة للعيش مع أسرهم مرة أخري.
ومن الأشياء الطريفة التي كشف عنها الاستطلاع أن كبار السن يشعرون بأنهم أكثر أمانا وتمتعا بالحماية من تقلبات الأيام من فئة الشباب ومتوسطي العمر. فقد جاء في خلاصة ذلك الاستطلاع أن احتمال لجوء كبار السن من الفئة العمرية 65 فما فوق إلي تخفيض إنفاقهم, أو تقليص حصولهم علي سلف وقروض من البنوك والأصدقاء أقل بكثير من أفراد المراحل العمرية الأصغر سنا, وهو ما ينطبق أيضا علي معاناتهم من صعوبات في دفع فواتير العلاج, أو أقساط الرهن العقاري, أو زيادة ديون بطاقات الائتمان التي يحملونها. وعلي سبيل المثال, كشف الاستطلاع نفسه أن 28 في المئة من الأمريكيين في الفئة العمرية ما دون الخامسة والستين, قد اقترضوا مبالغ من أقاربهم أو أصدقائهم في حين لم تزد نسبة هؤلاء من بين أصحاب الفئة العمرية 65 فما فوق عن 5 في المئة فحسب.
إن الفرق بين الركود الحالي وبين النسخ العديدة منه التي حدثت منذ الحرب العالمية الثانية وحتي الآن, هو أن الملاذات الآمنة التي يحتمي بها الناس هذه المرة كانت قليلة نسبيا, وأن الأضرار الاقتصادية والروحية للركود قد امتدت لمسافة أعمق وهو ما يرجع لأسباب عدة يمكن بيانها علي النحو التالي:
أولا, فقدان الوظائف بمعدلات كبيرة. بجميع المقاييس يمكن القول إن معدل فقدان الوظائف في الركود الحالي هو الأكبر مقارنة بكافة نسخ الركود التي حدثت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالبطالة بين فئة خريجي الجامعات علي سبيل المثال لا الحصر تضاعفت تقريبا إلي نسبة 5 في المئة.
ثانيا, خفض الرواتب. طال خفض الرواتب ربع عدد العمال, بما في ذلك الذين كان دخل عائلاتهم يتجاوز 75 ألف دولار سنويا, مما اضطر بعض العاملين للحصول علي إجازات غير مدفوعة الأجر, أو العمل لنصف الوقت.
ثالثا, فقدان الثروة العقارية, والأوراق والسندات المالية: وهذا الهبوط في القيمة الذي وصل إلي 25 في المـئة في المتوسط سنويا في الفئتين المذكورتين, أصاب الطبقات الأمريكية ذات الدخل الأكثر ارتفاعا, والتي يمتلك أفرادها ثروات طائلة كما أصاب أفراد الطبقة المتوسطة العليا التي شعر أفرادها بأنهم أقل ثراء مما كانوا عليه في السابق فلجأوا إلي زيادة مدخراتهم وتقليل نفقاتهم.
رابعا وأخيرا: الأطفال. إن هذا العدد الكبير من خريجي الجامعات العاطلين يجب أن يدق جرس إنذار للعائلات الأمريكية. ففي الوقت الراهن هناك 45 في المئة فقط من الآباء الأمريكيين يعتقدون أن أبناءهم سيتمتعون بمستويات معيشة أعلي من التي تمتعوا هم بها.. في حين كانت هذه النسبة 62 في المئة عام .2002
ومن ضمن المفارقات التي كشفت عنها دراسة ##مركز بيو## المذكورة أن الفئات التي كانت أكثر تعرضا للضرر بسبب الركود الكبير (السود, والشباب, و##الديموقراطيون##) كانت أكثر تفاؤلا بشأن احتمالات حدوث انفراج قريب للأزمة, من نظرائهم الأكثر تمتعا بالحماية (بما في ذلك البيض, والبالغون الأكبر سنا, و##الجمهوريون##). وتفسير ذلك حسب ##بيو## يكمن في السياسة: فبوجود إدارة ##ديموقراطية## لابد أن يكون ##الديموقراطيون## أكثر تفاؤلا وأن يكون ##الجمهوريون## أكثر تجهما.
وهناك تفسير أو نظرية أخري أجدها أكثر إقناعا, وهي أن الركود الكبير, وعلي رغم أنه قد مس الجميع تقريبا, إلا أن تأثيره كان مدمرا وصادما علي أولئك الذين كانوا في السابق هم الأكثر حماية. فهذا الركود كسر الشرفة التي كانوا يحتمون بداخلها علي نحو مفاجئ وغير متوقع, إلي درجة دفعتهم بالتالي لأن يصبحوا أكثر خوفا وأكثر حرصا.. في حين أن الفئات الأخري التي كانت تعاني من فقدان الوظائف وتغيرات الدخل حتي في أوقات الرخاء (السود علي وجه الخصوص وصغار السن والفقراء بشكل عام) كان إحساسها بالمفاجأة أقل.
إن الإرث الذي خلفه الركود الكبير الحالي هو أن الشعور بعدم الأمان وعدم اليقين قد ارتفع كثيرا إلي درجة جعلت الناس يشعرون بأنهم قد باتوا أكثر انكشافا, وهو ما دفعهم للتخطيط للمستقبل, وتوقع الأسوأ بدلا من أن يأملوا في تحقق الأفضل.
هل يمثل هذا حالة مزاجية عابرة أم تحولا دائما؟ معظم الأمريكيين, كما تقول دراسة ##بيو##, يعتقدون أن التأثيرات الاقتصادية المعاكسة ستكون مؤقتة, وأن التفاؤل سيعود مجددا. ويعتمد هذا علي الكيفية والسرعة اللتين سيخفف بهما الركود الكبير من قبضته علي روح الشعب الأمريكي.
اقتصادي حائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد
واشنطن بوست