الغرض الأول والهدف الأكبر من تجسد المسيح هوالفداء فلولا الفداء لما كان التجسد.ومن هنا كانت عظمة عيد القيامة بإزاء جميع الأعياد,لأنه لولا القيامة لما كان الميلاد…وما لم يكن المسيح قد قام مبرهنا بقيامته علي لاهوته من جهة وعلي تحقيقه الخلاص من جهة أخري,ما كنا في حاجة لأن نحتفل في عيد الميلاد لرجل عاش ثم مات,وبموته انتهت قضيته.لكننا نحتفل بعيد ميلاده لأننا نعرف من هو ونعرف مقامه اللاهوتي ومركزه في الخلاص,وأنه هو الله الظاهر في الجسد والذي بواسطته كان الخلاص….
ويمكن أن يضاف إلي هذا الهدف الأكبر للتجسد,هدف آخر له أهميته وقيمته,بحيث يمكن أن يقال إن الله في تجسده حقق هدفا كبيرا في لقائه بالإنسان,وفي هذا اللقاء دليل عناية الله بالإنسان.فلم يعد الله إلها يسكن وراء الجبال,كما تقدمه لنا الميثولوجيا اليونانية وأساطير الرومان.ولكنه صار في المسيحية قريبا إلي الإنسان وقد نزل خصيصا ليعيش مع الإنسان.ويشاركه اللحم والدم,ويشاركه آلامه ومتاعبه,ويكفكف من دموعه ويشفي أوجاعه.وهكذا كان المسيح صورة صادقة للرحمة الإلهية,وقد نزل إلي الأرض وعاش مع الإنسان,وشاركه في الآلام والمتاعب.والذي يقرأ الإنجيل يري ولا سيما في إنجيل لوقا,صورة الله المشترك مع البشرية في آلامها وأنه لم ير قط ضاحكا,كما يقول بيلاطس البنطي في تقريره الذي رفعه إلي طيباريوس قيصر,والذي وجد علي لوحة نحاسية في روما وإنما رئي المسيح باكيا وراثيا ومشفقا وحزينا ومتألما.عاني كل ما يعانيه أبأس الناس وأفقرهم وأضعفهم بحيث لا نكاد نجد صورة في الناس أشد إعداما وإملاقا وفقرا من الصورة التي قدمها لنا الإنجيل عن المسيح,الذي لم يجد له مكانا يأوي إليه حتي في وقت ميلاده,فنزل ضيفا علي مملكة الحيوان,وبدلا من السرير كان مذود البقر له مهدا,وقد قال مرة ”إن للثعالب أوجرة,ولطيور السماء أوكارا,أما ابن الإنسان ليس له موضع يسند إليه رأسه” (متي8:20),(لو9:58).
عاش نجارا يحصل قوته بكده وتعبه وعرقه وكفاحه ونضاله كعامل بسيط,وبعد أن تفرغ للخدمة الجهارية عاش مسكينا علي صدقات المحسنين,وكان له صندوق,وهذا الصندوق كان يحمله التلميذ الخائن…وكان علي شهادة الإنجيل يستولي علي ما كان في الصندوق (يوحنا12:6).
عاش المسيح إذن فقيرا بكل ما في الكلمة من معني ولا يمكن أن نتصور حالة من الفقر أوضح من الحالة التي عاشها المسيح.وفي هذا يجد الفقير المسكين عزاءه.لأن الله عندما أخذ صورة الإنسان أخذ صورة أفقر فقير يمكن أن تخطر ببال أحد من البشر,ولم تكن له أثواب كان له ثوب واحد…وأما طعامه فكان من أبسط الأنواع فكان هو الطعام السائد الذي يتمتع به كل فقير في بلد كان يعتمد كثيرا علي السمك,ولم نقرأ في الكتاب المقدس ما يشير إلي أن المسيح تمتع بطعام خاص,وحقا أنه قبل دعوات من أشخاص كثيرين كان أكثرهم عشارين وخطاة وكان يجلس في بيوتهم وعلي موائدهم,لكنه كان مشغولا بخلاص نفوسهم ولم يكن الطعام بالنسبة له غير طعم يجذبهم به,كصياد حكيم يجذب السمكة ليخرجها من يم الخطايا وبحر الآثام ليردها إلي شاطئ الأمان.
إذن لقد تجسد المسيح,وفي تجسده خير وبركة للإنسان,لأنه عرف الله فيه,والله غير منظور لكنه صار منظورا في المسيح.وكل صفات الله وكمالاته كانت معروفه في أكثرها معرفه نظرية عن طريق الكتب المقدسة أو عن طريق كتابات الفلاسفة والمفكرين,وأما في العهد الجديد فأمكن للإنسان أن يعرف صفات الله وكمالاته معرفة مباشرة في المسيح,الذي هو صورة الله الغير المنظور,ولم تعد صفات الله في نظر الإنسان مجرد صفات يقرأ عنها ويدرسها في كتاب أو يسمعها من معلم,ولكنه صار يراها واضحة أمامه في المسيح الذي عاش مع الناس وشاركهم حياتهم وتعامل معهم,ولذلك صار يعرف بابن الإنسان.
هذا هو المعني الذي حينما تأمله القديس أوغسطينوس بارك من أجله خطية آدم,لأنه لولا خطيئة آدم لما كان جاء المسيح,وفي مجئ المسيح تحقق كل هذا الخير للإنسان,وكل هذه البركة,وظهر كل هذا الحنان,وهذا الإشفاق وتعلم الإنسان العلم كله من فم الله,رآه بعينيه,وسمعه بأذنيه,وشاهده ولمسته يداه علي ما يقول يوحنا الرسول. ”ذلك الذي منذ البدء,ذاك الذي سمعناه,ذاك الذي رأيناه بعيوننا,ذاك الذي تأملناه,ذاك الذي لمسته أيدينا,من جهة كلمة الحياة” (1يوحنا1:1).
إن كل آباء الكنيسة تناولوا موضوع التجسد,وتأملوا فيه,وكتبوا عنه كتابات بروحانية كبيرة وتقوي واتصال وعمق ومحبة تقوية وتعبد.وكان التجسد مثيرا لهم,فحركهم ليعبروا عن مشاعرهم في صلوات عميقة وفي تهليل وتسبيح وشكر وتمجيد,خلفته لنا كتاباتهم الباقي بعضها إلي اليوم,والتي تدل في مجملها وتفصيلها علي مدي ما أحدثه موضوع التجسد فيهم من أثر عميق,ومن شدة انبهارهم وتعجبهم وشعورهم بهول المفاجأة,وعظمة الكرامة التي نالها الإنسان بتجسد المسيح الإله,تحدثوا دائما عن التجسد في تهيب ووقار وعبروا عن اتضاع عقولهم وعدم قدرتهم علي أن يصوروا حقيقة التجسد التصوير الدقيق,وعبروا عن عجز عقولهم عن فهم هذا التجسد والدخول إلي أعماقه وعبروا عن ذهولهم وعدم قدرتهم علي أن يفهموا كيف أن الله وهو حاكم الكون,وهو روح مطلق,يقبل أن يتخذ صورة آدمية ترابية…وعبروا عن عجز عقولهم عن أن يفهموا كيفية الاتحاد بين اللاهوت والناسوت,ولذلك وصفوا هذا بأنه اتحاد لا يدرك ولا يعبر عنه,ولا يمكن تصوره,ولا يمكن فهمه,وليس في مقدور العقل الإنساني أن يتصوره ولا أن يشرحه أو يعبر عنه تعبيرا أمينا دقيقا,ولذلك وصفوا التجسد بأنه ”سر”,وذلك تعبيرا عن عجزهم عن إدراكه,وإنهم مهما تكلموا عنه وأوضحوا حقيقته,فسيبقي لا قدرة لعقل الإنسان أن يعيها أو يفهمها أو يعبر عنها,وسيبقي التجسد أمرا خفيا ومستورا.ويظهر هذا الاتجاه في التفكير خصوصا عند آباء كنيسة الإسكندرية,وهذا هو الطابع الخاص الذي يميز لاهوت مدرسة الإسكندرية…إنه طابع التهيب والاتضاع في كل ما يتصل بالإلهيات,طابع فيه يخضع رجال الكنيسة وعلماؤها منطق الفكر لمنطق الإيمان,ويخضعون العقل للروح,ويحلون التناقض بالحل الروحاني,ويعلون علي التناقض الذي قد يصطدم به فكر الإنسان بالإيمان وبالروحانيات وبالأسرار الخفية العميقة.