لم يكن بغير قصد أو تدبير أن يجيء المسيح إلي دنيانا في سكون الليل وهجعة الخليقة,فقد كان السكون بهذا المعني يلائم طبيعته,وطبيعة الرسالة التي جاء من أجلها,ولذا لم يشأ أن يزعج بقدومه أحدا,أو يثير من حوله ضجة,بل أتي والناس نيام,فلم ينتبه لمجيئه في ليلة الميلاد غير رعاة ساهرين أنبأتهم بمجيئه ملائكة من السماء.فكان ذلك علامة علي روح السلام في ملك السلام.
ولد المسيح بالجسد بعيدا عن الأهل والأصدقاء والجيران,بعيدا عن كل أحد حتي في الخان أو الفندق الصغير الذي ولد فيه,وبالفعل لم يكن له فيه مكان فولدتمريمابنها البكر وقمطته وأضجعته في مذود إذ لم يكن لهما مكان في الفندق.فلما لم يشأ أحد من الناس أن يفسح له في منزله مكانا لم يشأ هو أن يقهر أحدا علي قبوله. وهكذا ارتضي المسيح أن ينزل ضيفا علي مملكة الحيوان,بعيدا عن الناس وإن كان قد جاء من أجل الناس.
ولئن كان هذا شرفا حظي به الحيوان وحرم منه الإنسان لكنه تدبير عجيب,ينبيء عن روح السلام في رئيس السلام.
مظاهرة روحانية:
إن ملائكة السماء أبت إلا أن تجيء معه في موكبه السماوي وقد أدركت ما حل علي الأرض من خير وبركة وسلام,فأضاءت البادية وهي تلتحف بالظلماء,وأشرق علي رعاة الغنم نور عظيم,وظهر جمهور من الجند السماويين يسبحون الله وينشدون نشيدا ما أحلاه:المجد لله في العلي,وعلي الأرض السلام,وبالناس المسرةفكانت هذه المظاهرة الروحانية السماوية علامة أخري علي روح السلام في ملك السلام.نعم,وعلي الأرض السلام!
فمهما مادت الأرض بالنزاعات والحروب والمخاصمات التي يثيرها الناس لسبب أو لآخر سواء كان ذلك الماضي أو الحاضر أو المستقبل القريب أو البعيد فالمسيح له المجد كان ولم يزل وسوف يظل دوما ملك السلام.
من من الناس زفته الملائكة يوم مولده كما فعلت ليلة ميلاد المسيح في بيت لحم؟!أليس هذا بينة علي طبيعته وطبيعة الرسالة التي جاء يغزو بها عقول الناس وقلوبهم ,وهي رسالة هادئة صافية طاهرة,ومع ذلك فهي أيضا رسالة عميقة نافذة وفاعلة ,أحدثت علي الرغم من هدوئها ثورة حقيقية قلبت مفاهيم,وحطمت مباديء وأقامت بدلا منها مفاهيم جديدة,ومباديء جديدة,وستظل مبادئه دائما جديدة لاتبلي ولا تفني مطبوعة بطابع الأبد.
روح السلام:
ولم يكن مسلكه يوم مولده في بيت لحم مسلكا خاصا اقتضته ضرورة الساعة,فإن السيد المسيح قد سلك طريق الوداعة والسلام علي الدوام,لم يستعمل العنف أو القسوة ولم يلجأ إلي القهر والتجبر,بل كان يترك للبشر حرياتهم ويكتفي بأن ينير الطريق أمامهم فيبصر الناس بالخير ويقنعهم بالحجة والدليل ويهديهم سواء السبيل.
لقد ذهب مرة إلي قرية فرفض أهلها أن يقبلوه فلم يشأ أن يدخلها ولو شاء لقدر.فغضب تلميذان من حوارييه,وأراداه أن ينزل علي القرية وأهلها نارا من السماء لتحرقها وتدمرها فأبي وقال:لستما تعلمان من أي روح أنتما,لأنني لم آت لأهلك نفوس الناس بل لأحييها,معلما إياهما أن روح المسيح روح سلام.
وقد سار تلاميذه المخلصون علي طريق معلمهم,فلم يعرفوا الغلظة أو التجبر,بل كانوا يضيئون طريق الناس بالتعليم الصحيح ثم يتركونهم بعد ذلك أحرارا يقبلون تعليمهم أو ينصرفون عنه.
وليست روح السلام كما علمها المسيح روح السلبية أو الخنوع,وليست هي روح الضعف أو الاستكانة أو الذلة,وليست هي الهرب حتي من الألم.
قوة الضعف:
مع وداعته وطهره وكمال صفاته ومع أنه لم يصنع بأحد شرا,وإنما صنع بالناس كل خير,لكن اليهود خاصموه وقاوموه,وأخيرا تجمهروا عليه وصلبوه.
ولما وقف للمحاكمة أمام بيلاطس الوالي الروماني,كان صامتا وساكنا وكان قادة اليهود يوجهون الاتهامات إليه فلا يجيب بشيء..فقال له بيلاطس:أما تسمع كل هذا الذي يشهدون به عليك؟فلم يجبه بكلمة حتي لقد دهش الوالي جدا,فقال له بيلاطس:لماذا لاتكلمني؟أما تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك؟وسلطانا أن أطلق سراحك؟ فلما قال له الوالي هذا أجابه المسيح علي الفور:ليس لك علي سلطان البتة مالم تكن قد أعطيت من فوق.
تكريم للفقراء:
كل من أصغي إلي المسيح أحبه وهابه,لذلك كانت تتبعه الجماهير بالألوف وعشرات الألوف حتي كان يدوس بعضهم بعضا. وكانوا يجدون في تعليمه قوة جاذبةوقوةفاعلة.وكانت تخرج منه قوةلشفاء النفوس وشفاء الأجسادوإقامة الموتي,وطرد الشياطين.
لقد علم المسيح بالسلام لاعن ضعف ,بل عن قوة,لأن روح السلام هي روح القوة.أما العنف فهو الضعف,ضعف النفس عن ضبطها لذاتها,ولذلك فإن من حسبوا مباديء المسيح مباديء ضعف,لم يفهموا روح السلام,ولا معني السلام.
والناس قد يتخاصمون ويتحاربون بدافع النزوات العارضة وفي القديم كانت كلمة واحدة يقولها ملك أو رئيس تثير ملكا آخر أو رئيسا آخر,فيعلنها حربا شعواء يفني فيها خلق كثير..أما اليوم,وقد تبين الناس بلايا الحروب وأنها تجهز علي الأخضر واليابس ولافرق في ذلك بين غالب ومغلوب ,صار الناس جميعا مؤمنين بقوة السلام.
ثم لنتأمل ميلاد المسيح في مذود للبقر لنتعلم حبه ورحمته.
كيف ولد من أفقر عذراء في أفقر بقعة في الوجود ,مذود للبقر؟!
هل لفقير في الوجود أن ينافس المسيح في فقره؟
هل للفقراء بعد ذلك أن يحزنوا أو يتذمروا أو يجدفوا علي الله؟
إن المسيح بميلاده في مذود للأبقار في خان صغير وحقير,قد شرف الفقر,وكرم الفقراء إذ صار كواحد من أفقر فقرائهم بل لعله ارتضي أن يكون بالفعل أشدهم ضنكا وأرقهم حالا وبذلك أنصفهم إذ انحاز إليهم وجعل ذاته واحدا منهم,فجذب إليهم عن هذا الطريق قلوب المترفعين عليهم والمنعزلين عنهم.
عاش يعمل بيديه:
انضم إليهم فجبر كسرهم ورد اعتبارهم ولفت الأنظار إليهم,ورفع معنوياتهم وأشعرهم أنه عارف بأحوالهم,وأنه مهتم بهم أكثر من غيرهم لذلك نزل إليهم وشاركهم فقرهم وشقاءهم.. أية إشتراكية أسمي دلالة من اشتراكية المسيح الذي اختار أن يولد في مذود للأبقار في قرية صغيرة مغمورة,وهي قرية بيت لحم؟!ولكن لم تعد قرية بيت لحم مغمورة ولعلها أصبحت أشهر من كبري عواصم العالم!لقد صارت مزارا ومحجا لكل الشعوب,قصدها الملوك ووضعوا علي أرضها تيجانهم تعبيرا عن اتضاع أمام الغني الذي من أجل الناس افتقر,حتي نغتني نحن بفقره.
وشاء دائما أن يواصل عمل الفقير,فعاش طوال فترة وجوده علي الأرض فقيرا يأكل ما يأكله الفقراء ويلبس ما يلبسون ويشتغل بيديه كنجار يصنع بابا أو يصلح نافذة ويقنع بالقليل من كل شيء..
وعندما أعلن ذاته كقائد روحي كان دائما ينحاز إلي الفقراء يحنو عليهم وينصت إلي شكواهم ويمد يده إلي معونتهم.وكان يمشي معهم وإليهم وعلي قدميه يزحمونه فيحتملهم وهموا يوما من فرط إعجابهم به ومحبتهم له أن يختطفوه ليقيموه ملكا.فلم يناقشهم حتي لا يجرح شعورهم,أو يصد رغبتهم بل اكتفي أن يتحول عنهم ويمضي فلم يشعروا به عندما اختفي عنهم وابتعد وحتي في اليوم الذي قبل فيه تحيتهم وهتافهم له,وسعف النخل في أيديهم وهم يصيحون أوصناأيخلصنالم يشأ أن يدخل أورشليم ممتطيا صهوة جواد,كما يفعل الملوك,لكنه دخل أورشليم كفقير,راكبا علي جحش صغير ما ركبه أحد من الناس قط..
لهذا أحبه الفقراء:
هذا هو مولود بيت لحم الذي قضي علي أرضنا نيفا وثلاثة وثلاثين عاما عاني فيها كل أسباب الفقر حتي لقد قال مرة يصف فقرهإن للثعالب أوجرة, ولطيور السماء أوكارا وأما ابن الإنسان فليس له موضع يسند إليه رأسه.وقال عنه أحد رسلهافتقر لأجلكم وهو الغني لتغتنوا أنتم بفقره.
هذا هو المسيح الذي بشرت بميلاده الملائكة, رعاة في البيداء فذهبوا إليه وقدموا له خضوعهم وولاءهم قبل أن يسجد له المجوس الأغنياء.
هذا هو المولود العجيب,الكائن السماوي في صورة طفل هو شفيع الفقراء وحاميهم ولقد دافع عنهم دفاعا لم يعرفه العالم من قبل أو من بعد,حتي أنه دعاهم إخوتهوقال إنه يوم ينزل للحساب ديانا فلسوف يسأل الأغنياء عما فعلوه بالفقراء.لهذه الأسباب أحبه الفقراء وعامة الشعب لأنهم رأوا حنانه عليهم ورفقه بهم,ولمسوا فيه أنه كان يدافع عنهم ويوبخ الرؤساء والأغنياء من أجلهم.
ولهذه الأسباب نفسها كرهه زعماء اليهود وقادتهم,وأخذوا يحيكون له الفخاخ ويتربصون به الدوائر ومع ذلك لم يفلحوا في حمل الناس علي كراهيتهم له.
إن أورشليم القدس سميت كذلك لأنها مدينة السلام وهي مدينة المسيح,لأنه هو سلامها فلما جاء إلي أهلها يمد إليهم يد السلام رفضوه وقاوموه,فنعاها باكيا عليها لأنهم لم يفهموا رسالته..وقال يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها!
هل يدرك العالم اليوم هذا الدرس الثمين في يوم ميلاد رب السلام وملك السلام وصانع السلام؟!.